الآخر في "قصة الراهب الفرنسي" لسعود الطائي

 

ناصر أبوعون

في هذه القصة تلتقي العديد من الفنون والأجناس الأدبية، وإنْ شئنا دقة التوصيف؛ فهي خلطة من عناصر كيميوإبداعية مزجها الكاتب وفق رؤيته بنسب متفاوتة كميًّا وكيفيًّا – وإنْ كنتُ أظنّه لم يتقصّد الابتداع وتداعى في الكتابة وتماهى من المفتتح وصولاً إلى الجملة الأخيرة – انتهت به إلى عمل أدبيّ اجتمعت في خارطته ونطاق إحداثياته؛ اللغة الشعرية، والسّرد والمقالة الصُّحفيّة، والتمسرح، والسيناريو، والمشاهد التصويريّة، والقيم الفنية للقصة القصيرة.

وقصار القول: إن نصّ "الراهب الفرنسيّ" فنٌّ إبداعيّ عابر للنوعيةّ، أسقط مؤلفه سعود الطائي الجدران الفاصلة بين سائر الأجناس الأدبية ويمكن قراءته على أكثر من وجه. أمّا إذا شئنا تسكين هذا العمل في جنس أدبيّ تتسع قماشته لسائر الأجناس الفنية فلن يكون غير "أدب الرحلات"، وهو فنٌ عربيٌّ خالص ظهرت بوادره مع بداية عصر التدوين.

وفي هذه الرحلة التي قام بها سعود الطائيّ إلى الجمهورية الفرنسية في مطلع سبعينيات القرن العشرين طالبا عُمانيًا مبعوثًا للدراسة من قِبَلِ حكومة المغفور له – بإذن الله تعالى – السلطان قابوس بن سعيد، لمّ يتصدّر(الزمان/التاريخيّ) ولا(المكان/الجغرافيّ) بؤرة المشهد السَّرديّ – بل انسحب (الزمكان) معًا إلى خلفية المشهد، لتتوهّج شمس (الرحلة النفسية) التي تستنطق التاريخ، وتكتشف ذاتها وتأثيرها الحضاريّ في روح وعقل (الراهب الفرنسيّ). [ورغم ما كان يدور في نفسي من اضطراب لتفاعل الثقافات واختلافها فإن القطار أكمل طريقه إلى أنجيه عبر تلك الحقول الخضراء].

لكن بماذا تميز هذا النصّ الرّحليّ عن سائر الأعمال الأدبية المتناثرة في تاريخ الأدب العربيّ القديم والحديث؟ يمكننا القول – وفق منهجية تقارب الإبداع في نطاق "سيميولوجيا الدلالة" وتخطي اللسَانيّ المنطوق إلى آفاق أوسع تشمل كل ما هو بصريّ – إنّ سعود الطائيّ طالب العلم في هذه الرحلة كان هو (الآخر) السالب والمؤثر والفاعل) ومعادله الموضوعيّ في النصّ:(الشرقَ الآسر الساحر/عُمان الصورة الصادقة/المذهب الإباضيّ/ الروحيّ) وكان الأكاديميّ المُعلم الراهب هو المستلب والمتأثر والمسحور بفتنة الشرق والمفعول فيه ومعادله الموضوعي (الفرنسيّ ابن عصر الحرية والأنوار/المسيحيّ/الغربيّ الكولونياليّ الماديّ الباحث عن السيادة والكمال)؛ الذي صار مُستلبا ومفتونا، والمبعوث العُمانيّ للدراسة هو (الآخر الساحر، الشرقيّ الفاتن، الحضاريّ المُسالم، المرآة الصادقة للإنسانية) التي رأى فيها الغربيّ الماديّ نقصه الروحيّ -وإنْ كان يسير طوال نهاره وليله بين بيته والكنيسة - بعد أن استطاعت الثورة الفرنسية فصل الدين عن الدولة وإعلان موت الإله، ورفع راية الحرية المطلقة زُورًا وبُهتانًا. [في الطريق إلى منزله، قال لي إنِّه يعلم مدى إندهاشي من ظهور راهبٍ عجوز من كنيسة قديمة يعرف الإباضية، ويعرف أنها منتشرة في عُمان، لكنني أستاذ للدراسات الإسلامية في جامعة أنجيه ومتخصص في دراسة الحركات والمذاهب الإسلامية التي ظهرت إلى الوجود بعد أن تحوّلت الخلافة الإسلامية إلى ملكية وراثية، وكانت أكثر اهتماماتي في دراسة الحركة الإباضية وقد قضيت 10 سنوات في وادي ميزاب في الجزائر، وعشت بينهم أحببتُهُم وأحبوني وذكروا لي أن لهم إخوة إباضية في عُمان، وكانت أمنيتي أن التقي بإباضي من عُمان، وفاجأتني الأيام بك واقفًا تنتظرني على باب الكنيسة، يا لها من مصادفة غريبة!]. في بهو القصة/أو عقله الواعي أدار سعود الطائي، حوارًا فكريًّا صادقًا تصارح فيه وتصالح مع ذاته الشرقيّة التي سحرت الغرب الفكريّ المُتمثِّل في (الراهب الفرنسيّ)، وجرى لها لعاب (الرأسماليّ الكولونياليّ) فانقضَّ على تقسيمها وتسوير حدود زائفة شائكة ووهميّة حوَّلتها إلى "كانتونات" متعادية ليَسْهُل افتراسها وامتصاص مقدراتها.

في هذا الحوار الداخليّ "المنولوج" يدير الكاتب سعود الطائيّ ماكينة العرض السينمائي وينتقل بالقراء/ المشاهدين من مشهد نفسيّ إلى آخر، ويخلق حيوات متعددة تتصارع فيها الأفكار، يعزف موسيقى تصويريّة تعبيريّة على أوتار "الوحدوية العربيّة" الجامعة للدين واللغة والجغرافيا والعرق والتاريخ التي مزَّقتها الصراعات السياسيّة المصطنعة على عين المتآمرين على طاولة "سايكس بيكو".

أمّا على مستوى الكتابة الفنية فمن مطلع الجملة الأولى في نصّ "الراهب الفرنسيّ" يأخذ سعود الطائي القاريء إلى مناطق آسرة ترتفع فيها مستويات الشاعرية في الأداء اللغويّ؛ حتى إن الكثير من المقاطع تظهر فيها شحنات طاقويّة عالية من الصور الشعرية التي تماهت مع السَّرد، وتخلّت عن شرطية الشعر الخالص، وإن كان في الإمكان أخذها إلى رواق قصيدة النثر المضفورة في خيط السّرد؛ حيث اللغة البصريّة المُشّعَة، والألفاظ المكثّفة المكتنزة بالدلالات، والانطلاق التعبير اتكاءًا على "وحدة الجملة" وتوظيف تقنية السّرد المُتشعرن لأغراض فنيّة [كان بالقرب من سكن صديقي كنيسة قديمة من العصور الوسطى، تبدو موحشة كلما اعتم الليل، ومن أحد أبوابها خرج راهب عجوز يرتدي ملابس سوداء، ويحمل بيديه حقيبة قديمة. أخذته المفاجأة وهو يراني واقفًا كعمودٍ صغيرٍ أمام المبنى الخالي من أهله، مُستجديًا أن تنبعث فيه الحياة، ويطل زميلي من إحدى جنباته المُظلمة].

لقد ألقى الكاتب سعود الطائي حجرًا من الأسئلة الوجودية في بركة "السّرد" ليستفزّ دوائر الصراع لتتفاعل وتتحاور مع الذات التي تشظّت في المقطع الثاني من نصّ "الراهب الفرنسيّ" في صورة رؤية فكرية تستدعي التاريخ العربي والعماني إلى ساحة النص ليس لغرض تزييني أو فانتازيّ؛ بل ليُحاكم الواقع العربيّ المُنكفئ على ذاته الذي أفل نجمه وصار بين شقي رحى الغرب برأسماليته الكولونيالية وماركسيته العقائدية التنظيرية. وفي هذا المشهد سوف تتناسل في عقل القاريء قائمة من الأسئلة الوجودية والجوهرية من وجهة نظر الفلسفة الظاهراتية؛ ليبدأ البحث عن إجابات منطقية في محاولة لاستكشاف حقيقة وأسباب الأزمة التي أدخلت العرب من المحيط إلى الخليج في نفق مسدود [عندما أفتح النافذة كل صباح، يتسربُ نسيمٌ عليلٌ باردٌ، وتتسرب معه أصوات غامضة تأتي من بعيد، أصوات عربية تأتي من تلك السهول الخضراء، وكانت تأتي معها أحيانًا أصوات صهيل الخيول وقعقعة السلاح والرماح وكانت هذه الأصوات تطاردني وكأنها تعرفني عن قرب وكانت تقترب أحيانا وتبتعد في أحيان أخرى].

وفي نهاية هذا النصّ الرّحليّ يضع الراهب الفرنسيّ إجابة جاهزة- بل إنها الحقيقة- التي لا تحتمل الشك أو التأويل ولا تقليب النظر. [خطر لي أن أسأل الراهب عن تلك الأصوات، لكن فاجأتني إجابته!.. أوقف الراهب سيارته، وقال لي يا بُنيّ إنها أصوات آبائك وأرواحهم في سهول بواتييه؛ حيث جرت معركة "بلاط الشهداء" وتوقّف نور الإسلام عن فرنسا وأوروبا منذ ذلك اليوم!.. إنها أصوات عبدالرحمن الغافقي (والي الأندلس) ورفاقه.. إنها أرواحهم تناديكم وأنتم نائمون!.. إنهم المنسيون في بواتييه].