هواجس ما بعد "الطوفان"

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.con

تبدُو الشعوب في حالات تاريخية تشبه جغرافياتها المتباعدة؛ حيث لا تلتقي سوى عبر حدود سياسية أو مُسطَّحات مائية قد لات عني شيئا عند الكثير من الناس، لكنَّ حُكم التاريخ في مفاصله الحادة أن تذوب تلك الفواصل والمساحات الجغرافية ليتشكل العالم قسرا وفق هوى التاريخ، في لحظة فارقة تشبه اليقظة الجمعية للناس كافة، تلك اليقظة التي تُملِي عليهم ممارسة التفكير القسري الواحد والتقليد المحاكاة.

فتقليد المحاكاة بين البشر جعل تجارب إقليمية كثيرة عبر التاريخ الإنساني، تعبر الحدود والأجيال لتشكل هاجسا إنسانيا مشتركا، وعقلا جمعيا واحدا يُمثل نقلة فكرية وتجربة إنسانية يمكن البناء عليها والانطلاق من خلالها.

فالثورة الفرنسية -كمثال- لم تُشكِّل يومًا موروثًا للفرنسيين وحدهم، بل اعتبرتْ ولغاية اليوم رصيدًا إنسانيًّا، نقل الإنسانية المعاصرة من زمن إلى آخر وعلى أكثر من صعيد، كما شكَّلت الثورة البلشفية صدى إنسانيًّا كبيرًا تسبَّب في نشوء وعي إنساني جمعي بأهمية الحديث عن فواجع الطبقية.

التاريخ الإنساني حَمَل الكثير من التجارب والنماذج التي خرجتْ من رحم الإقليم إلى ساحات الأنسنة بفضائها الواسع، والتي لا يمكن حصرها في مقال وعلى عُجالة.

"طوفان الأقصى" ظاهريًّا محصور في إقليم عربي يعرف تاريخيًّا بإقليم الشام، وفي جغرافية ضيقة مختصرة تسمى قطاع غزة، ولكن قرَّاء التاريخ يصنفونه كحدث إنساني عاصف، سيحدث الكثير من الارتدادت والنتائج على جميع الصعد الإقليمية والدولية.

ومن أقرب الأدلة والقرائن على شيوع "الطوفان"، وسريان مفعوله عبر الحدود والأجيال، هو حجم التداعيات الهائلة التي أحدثها حول العالم، وجعل منه حدثا إنسانيا مشتركا في القارات الخمس، وكأنَّ فلسطين أرضٌ اغتصبت اليوم وليس منذ سبعة عقود ونيف.

وفي تاريخنا العربي القريب جدا، شكَّل احتلال فلسطين عام 1948م المِفصَل الأهم في الدفع بقيام ثورة 23 يوليو 1952م، وكان من أهم أسباب الثورة وعلى رأس أولوياتها.

كما شكَّل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، ثم العدوان الأممي عليها عبر الكيان الصهيوني في الخامس من يونيو 1967م، دافعا قويا لأحداث عربية جسيمة، كثورة 14 يوليو 1958م بالعراق، وثورة الفاتح من سبتمبر 1969م في ليبيا.

ورغم أنَّ عرب زماننا لا يقرأون التاريخ، ولا يقيمون وزنا لنظرية التقليد والمحاكاة في حياة الشعوب وتجاربها، إلا أنَّ العدو يرسم إستراتيجياته الدقيقة في حروبه معنا وفق نبض التاريخ وسيرورته.

لذا؛ نتذكر أنَّ الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، حين أخبره وزير خارجيته هنري كيسنجر بأنَّ جولدا مائير رئيسة حكومة العدو الصهيوني ووزير دفاعها موشي دايان رفضا قرار وقف إطلاق النار في حرب أكتوبر 1973م، رفع نيكسون سماعة الهاتف وقال لجولدا مائير: "جولدا، فعلنا كل شيء لكم، وقدمنا كل دعم لكم، وآن الأوان أن تحتكموا للعقل وتقبلوا بقرار وقف إطلاق النار، تذكري جولدا بأن معارك عام 1948م هي من أتت بجمال عبدالناصر، ونحن لسنا على استعداد اليوم لخروج عبدالناصر جديد بفعل تعنتكم"!!!

تعنت نتنياهو اليوم وجرائمه في غزة لن تمر مرور الكرام، لا على الصعيد الداخلي الفلسطيني، ولا على الصعيد العربي، ولا على الصعيد الإسلامي، ولا على الصعيد العالمي. فقتال العدو اليوم وغدا لن يكون على صعيد جبهات عسكرية ولا استخباراتية ولا سياسية، بل على صعيد وعي وعقل وفكر، كي يُسحق ويمحو أي أثر للطوفان في عقول عرب اليوم وعرب الغد، كي يمرر الهزيمة على العقل العربي، ويخترق من خلاله التطبيع والاستسلام والخنوع.

وبالشكر تدوم النعم...،

--------------------

قبل اللقاء: الغرب حريص جدا على كي الوعي وتغييبه، وحصار العقل العربي كي لا ينعم بفضيلة التقليد والمحاكاة لتاريخه القديم والأوسط والحديث، كي لا يتحصَّن بثوابته وينعم بفضائل موروثه الحضاري الغني، ولا انتصارات أبنائه.