علي بن مسعود المعشني
ليس من اليسير صناعة التاريخ، كما ليس الممكن من معرفة المُستقبل دون قراءة التاريخ، فالتاريخ كسيرة الإنسان، عمر آخر ولكنه أطول بكثير. فما بالك بمن يكتب التاريخ ويصنعه بـ"ضغطة زناد" و"كبسة زر"!!
نعم، لقد صنعت غزة التاريخ وكتبته بكبسة زر يوم السابع من أكتوبر من عام 2024م، وجعلت الكيان الصهيوني ورعاته يعترفون وبلسان واحد أنهم يواجهون حرب وجود للمرة الثانية من عمر الكيان، حيث كانت حرب أكتوبر 1973م الحرب الوجودية الأولى في ذاكرتهم وعقلهم الجمعي.
العاشر من أكتوبر 1973م، والسابع من أكتوبر 2024م، يلتقيان في الشهر والهدف، ولكنهما يختلفان في التفاصيل والنتائج على الأرض، فقد كان الأول حربًا بين جيوش نظامية، وعلى جبهات وجغرافيات خارج الكيان، ولم تتعدى أيامًا محدودة على الجبهة المصرية، وهي جبهة ثقل وجهد المعركة، وعلى مساحات جغرافية واسعة. بينما التاريخ الثاني يشير إلى حرب بين جيش نظامي تسانده أمريكا والغرب، مقابل فصائل مقاومة على جغرافية قطاع صغير يسمى غزة.
الحرب الأولى تحولت بفعل فاعل وتواطؤ الى تطبيع واستسلام للعدو عبر اتفاقية كامب ديفيد، وبالتالي طواها النسيان ومسحتها الذاكرة العربية الجمعية إلى حد كبير، أما الثانية، فقد دارت رحاها من داخل جغرافية فلسطين، وانتزعت النصر في ساعاتها الأولى، وبرهنت على أن فلسطين كانت وما زالت مقبرة للغزاة والخندق الأول والعصي للدفاع عن الأمة.
هُزم التتار ونابليون والفرنجة على أرض فلسطين، وأحدثت هزائمهم تحولات تاريخية هائلة، ترتب عليها اختفاء إمبراطوريات، وسيادة أقوام واندثار آخرين.
"طوفان الأقصى" ليس كما سبقه من أحداث وملاحم مع العدو، فهو لم يكن لتحريك وضع؛ بل لتحرير أرض، لهذا كان الطوفان كبسة الزر التي كتبت تحرير فلسطين وفناء الكيان الصهيوني، ليلحق بركب سابقيه ممن تبخروا على أرض فلسطين.
من يتابع يوميات الطوفان ويرصد ويحلل تداعياته القريبة والبعيدة، يتيقن بأنَّه حالة تاريخية ستعيد تشكيل جغرافيات مهمة في العالم، وسيكون سببًا في سيادة أقوام واندثار أقوام، فسنن التاريخ لا تتوقف، ودول الأيام كذلك.
أمريكا ليست بمنأى عن التأثيرات القوية المباشرة للطوفان، فقد رمت بجميع أوراقها في الحرب ومنذ اللحظات الأولى، ليس بدافع تحقيق التوازن في الحرب لجني ثمار نصر سياسي بحجم كامب ديفيد وكما كان الحال في حرب أكتوبر 1973؛ بل بقصد حماية كيانها واستثمارها الاستراتيجي المسمى بإسرائيل من الزوال. الغريب أن الاندفاع الأمريكي غير المحسوب لحماية الكيان الصهيوني تسبب في تصدع "الإمبراطورية" الأمريكية، ولم يعرض مصالحها في العالم للخطر فحسب؛ بل عرَّض وجود أمريكا للخطر، وجعلها عُرضة للابتزاز من قوى عالمية صاعدة كانت تتحين الفرصة للثأر من أمريكا، والتي وسعت على نفسها مساحات العداء حول العالم، وجعلت ثأراتها لا تُعد ولا تُحصى.
سيسجل التاريخ أن "طوفان الأقصى" صنع مفصلًا تاريخيًا بكبسة صواريخ القسام وقذائف الياسين، وأن الطوفان لم يُعجِّل بزوال الكيان الصهيوني وتحرير فلسطين؛ بل عجَّل بزوال المحفل الماسوني وتحرر العالم من خرافات وأساطير حكومة المليار الذهبي.
قبل اللقاء.. الإرادة تهزم السلاح، والعقل يهزم القوة، والحضارة تنتصر على المدنية، والحق ينتصر على الباطل.
وبالشكر تدوم النعم.