د. عبدالله باحجاج
كنت قد قررت أن يكون عنوان هذا المقال باسم "مُعاداة واشنطن ولندن"، غير أنني لما انتهيت من كتابته ظهر لي عنوان آخر أكثر دقة وموضوعية ومتناغمًا مع جوهر الحقائق التي يتناولها المقال؛ فوقعتُ في حيرة من أمري، فأيهما أتبنى، فكلاهما يحملان رسائل ثقيلة لواشنطن ولندن، ولمن يُمعن الإصغاء في القول والسمع، غير أنني اهتديت لهذه المقدمة الجامعة لهما، فعنوان "معاداة واشنطن ولندن"، قد استخلصته بعد استقراء موضوعي للرسائل الواردة إلينا من جنوب أفريقيا، وما يتقاطع معها على مستوى الشعوب عالميًا عامة، وإسلاميًا وعربيًا على وجه الخصوص، في ظل استمرار المذابح والجرائم الإنسانية في غزة.
فبعد مبادرة جنوب أفريقيا القضائية التاريخية بمحاكمة الصهاينة في محكمة العدل الدولية، يبادر الآن 50 من محامييها بصورة مستقلة، ويقررون محاكمة الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية بتهمة دعمهما لجرائم الصهاينة في غزة. ويتعاطف معهم نظراؤهم من أنحاء العالم بما فيهم من أمريكا وبريطانيا، ويذهب رئيس المبادرة المحامي ريكوس فان رينسبورغ إلى المحاكمة عن كل جرائم واشنطن السابقة، ويضرب مثلا بغزو العراق عام 2003، وهنا ينبغي أن تخشى واشنطن ولندن من مآلات مثل هذه المبادرات التصعيدية؛ فهي تصنع حالتيْ العداء مع الشعوب الإسلامية والعربية، والغضب مع شعوب العالم، ونتوقع أن تكون المُعاداة الخطوة الثالثة المُقبلة في حالة عدم إنصاف العدالة الدولية أو المدنية غزة، وهي- أي غزة- لا تطالب إلّا بحقوقها الأساسية، كالحق في الحياة، والحق في الإنسانية، والحق في الأرض.
المعاداة فرضية قائمة الآن وبقوة، صحيح أنها ليست ضمن اهتمامات الأنظمة السياسية الإقليمية، بدليل التفكير في استمراريتها في استكشاف فرص التطبيع رغم توالي المذابح المُمنهجة، وإنما هي في قناعات الشعوب الراسخة الآن، وما نخشاه دائمًا في مقالاتنا أن تتأثر به الجماعات الآيديولوجية في المنطقة خاصة والعالم أجمع؛ فكل الجماعات أصبحت مُحتقنة ضد جرائم الصهاينة وأنصارهم؛ لأن القضية هنا دينية بامتياز، وربما تنتظر الخطوة المقبلة على أقل تقدير، وربما تكون قد انتقلت إلى التنفيذ، وتترقب نضوجه.
إثبات دور واشنطن ولندن في المذابح والتدمير والتنكيل؛ بل في كل ما يحدث في فلسطين المحتلة، سيكون من أسهل ما يمكن، وأسرع مما يتوقع، لن نتعمق في تاريخ دورهما في نشأة الكيان الصهيوني ولا في تسليحه وحمايته، وإنما سنتوقف سريعًا عند بداية العدوان على غزة، فقد أعلنت أمريكا دعمها المباشر والمطلق للصهاينة، وخصصت 14.3 مليار دولار مساعدات له، وساندته بالقوات والسفن وطائرات التجسس، ونقلت جريدة الرؤية في أحد أعدادها الأخيرة عن دراسة صدرت عن مركز خدمة أبحاث الكونجرس أن واشنطن قدمت لإسرائيل مساعدات منذ 1948 حتى مطلع 2023 بقيمة 158.66 مليار دولار دون احتساب معدل التضخم، وفي حال احتساب معدل التضخم فإنها تصل إلى 260 مليار دولار، وسلوكها السياسي في إحباط كل قرارات مجلس الأمن الدولي لوقف العدوان الصهيوني على غزة يكفي لوحده لأدانتها بمذابح غزة.
أما لندن، فمنذ بداية العدوان أعلنت عن دعمها الكامل للصهاينة، وقد ترجم ذلك في صور مساعدات عسكرية شملت سفنًا ومروحيات وطائرات تجسس، كما واصلت بيع الأسلحة لهم، والكثير من البرلمانيين الأوروبيين الشرفاء يُحمِّلون لندن وواشنطن تبعات المذابح والجرائم الإنسانية الأخرى في غزة، وقد حاولت الوقوف على حجم وماهيات هذه الجرائم بالأرقام، ووقفت عند صواعق عقلية، لا تمت للإنسانية؛ بل والبشرية بأي صلة تبرر أفعالها أو الصمت عليها، ومنها يستوجب الإدانة والعقاب والمعاداة والعزلة الدولية.
كل من يطّلع على الأرقام يخرج منها بنتيجة أن العدوان على غزة يستهدف محو البنية التحتية لغزة من بشر وحجر وشجر؛ أي قلب عاليها سالفها، لأسباب كثيرة أوضحناها سابقًا، منها: أن غزة أصبحت تقود نهضة إسلامية على صعيد تأسيس الذات المسلمة، في وقت تمكن فيه الغرب من التغلغل في تكفيك بنيات اجتماعية وثقافية بصورة مُقلقة من خلال أفكار معينة كالإلحاد والجندرية والمثلية. وإليكم الأرقام التي تدلل على ذلك، وقد جمعتها قبل أسبوع تقريبًا، بمعنى أن الأعداد قد تزايدت، لكنها كافية للاستدلال بها:
* استشهاد 10 آلاف طفل و7 آلاف امرأة، أي ما نسبته 70% من مجموع الشهداء البالغ عددهم (وقت الحصر) أكثر من 23 ألف شهيد.
* إصابة نحو 60 ألفًا بجروح مختلفة، منهم 6 آلاف إصابة بحاجة للسفر للعلاج لإنقاذ حياتهم.
* نزوح 1.8 مليون إنسان من منازلهم ومناطق سكنهم من غزة، ونحو 400 ألف إصابة بالأمراض المعدية.
* منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسيف" تقول إن نحو 20 الف طفل ولدوا في ظروف لا يمكن تصويرها، وترى على لسان المتحدث باسمها تيس إنفرام بعد عودتها من هناك عن أمهات نزفن حتى الموت، وممرضة اضطرت لإجراء عمليات ولادة قيصرية لست نساء حوامل مُتوفيات.
* تدمير 95 مدرسة وجامعة كليًا و295 مدرسة وجامعة جزئيًا، و142 مسجدًا كليًا و295 مسجدًا جزئيًا.
* تدمير 96 ألف وحدة سكنية كليًا و290 ألفًا جزئيًا.
* تدمير 30 مستشفى، وخروج 53 مركزًا صحيًا عن الخدمة.
سنتوقف عند هذه الأرقام؛ فهي كافية لتبرير محاكمة كل من يُناصر الصهاينة في عدوانهم على غزة، وبالذات واشنطن ولندن، وهي كافية كذلك لصناعة عداوة واشنطن ولندن في سيكولوجيات الأجيال المقبلة، أي ليس الجيل الحالي فقط. والمدهش هنا أنَّ الرئيس جو بايدن وإدارته لا يزالون يعارضون حتى الآن وقف العدوان رغم تلكم المذابح والجرائم. حدث هذا قبل يومين خلال الاتصال الهاتفي يبنه وبين نتنياهو، لأن مهمة الإبادة والتهجير القسري لم تتحقق وفق مخططاتهم، وهذا يعكس مدى جديتهم وإصرارهم على المضي قدمًا غير عابئين بالضحايا ولا بصرخاتهم ولا باحتجاجات شعوب العالم في مختلف عواصم العالم.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أننا هنا أمام علو وعتو واستكبار وظلم، من النوع الذي يؤدي إلى هلاك الأمم والشعوب والدول والحضارات، وهناك قصص قرآنية كثيرة يمكن الاستشهاد بها، كقصة فرعون، كقوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ﴾ [الأعراف: 133]. وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَارُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ﴾ [يونس:75].
والاستكبار وفق قراءتي لكثير من النصوص القرآنية وتفسيراتها، كان من بين أسباب هلاك فرعون مثل الأمم السابقة واللاحقة وهذا من السنن الكونية في كل زمان ومكان، والهلاك له صور متعددة أعلاها ما في قصة فرعون، ومتعددها انهيارات اقتصادية وسياسية وحياتية وظواهر مناخية وصحية.. إلخ.
يقينًا أننا ننتظر أعلاها أو واحد من متعددها، فلن تذهب الدماء في أتون التاريخ، ستستدعي جميعها لتشكل مع مذابح غزة حالة هلاك لكل ظالم وليس ظالمًا واحدًا فقط مهما كانت قوته؛ فالمذابح وراؤها مجموعة ظلمة وليس واحدًا.