د. محمد بن عوض المشيخي **
تحمل الولايات المتحدة الأمريكية بحضورها العالمي واحتضانها لمقر الأمم المتحدة عدة أوجه وعجائب ومتناقضات ومفارقات صادمة، فأفضل ما يمكن أن يقال عن هذا البلد وعلى وجه الخصوص في جانبه المشرق وجود بعض النخب الفكرية الأمريكية؛ والتي تتميز في رفع شعار حقوق الإنسان وعلى وجه الخصوص حقوق الأقليات المضطهدة في العالم، وعلى الرغم من هذه المساحة من الأفكار الإنسانية المنقوشة على تمثال الحرية في مدينة نيويورك والذي يشير إلى نهاية الاستبداد وبزوغ فجر الحرية المتزامن مع استقلال الأمة والمؤرخ بتاريخ 4 يوليو 1776.
غير أن البعض مِنّا لم يفهم التناقض، أو يستوعب بعد جرائم الحكومات الأمريكية المتعاقبة عبر التاريخ، فلعل ما يحصل الآن في قطاع غزة المحاصر منذ 2007، وقيام الرئيس الأمريكي بتحريك حاملات طائرات نحو شواطئ فلسطين المحتلة لمساندة حكومة إسرائيل الإرهابية؛ بل ارسلت السلطات الأمريكية جنرلات وجنودًا من قوات النخبة لتقاتل إلى جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي فضلا عن فتح جسر جوي لمد الصهاينة بالسلاح والأنظمة الدفاعية وعشرات المليارات من الدولارات بهدف الإبادة الكاملة للشعب الفلسطيني في غزة التي اقتربت فيها أعداد الشهداء من 10 آلاف شهيد معظمهم من الأطفال والنساء..كل ذلك ليس سوى انحطاط أخلاقي وإفلاس سياسي من دولة تزعم أنها تقود العالم المتحضر وتدافع عن القيم الإنسانية النبيلة. كما إن المسؤولين الأمريكيين قد حذروا إيران وحزب الله من الدخول في ساحة المعركة مع حماس والجهاد الإسلامي اللذين انفردت بهما إسرائيل منذ أكثر من 20 يومًا.
صحيحٌ أن هناك مواجهات يومية على الحدود الجنوبية للبنان، لكن الأمة تتطلع إلى حزب الله أن يشارك بكل قواته وإمكانياته التي تتجاوز تسعة أضعاف قوة المقاومة في غزة حسب الخبراء، وفي حالة الانصياع للتهديدات الأمريكية بحصر المعركة في غزة فقط، فإنَّ الهدف القادم هو محور ما يعرف بـ"المقاومة" في المنطقة.
من المفارقات العجيبة أن حكومة نتنياهو اليمنية المتطرفة التي تشكلت العام الماضي وتحظى بالدعم والمساندة من البيت الأبيض، أعلنت على مرأى العالم أن على الفلسطينيين أن يختاروا بين الموت أو الاستعباد من اليهود أو التهجير والطرد خارج فلسطين المحتلة. وقبل ذلك بشهرين، عَرَضَ رئيس وزراء دولة الاحتلال خارطة لحدود الدولة الصهيونية الجديدة من على منبر الأمم المتحدة؛ إذ تضمنت ضمّ الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، ضاربًا بقرارت الشرعية الدولية عرض الحائط؛ وهذا يؤكد ما قلناه في مقال سابق "ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلّا بالقوة"، فلا توجد قوة استعمارية عبر التاريخ تنسحب من أراض احتلتها، دون مقاومة وتضحيات مؤلمة، وهذا بالفعل ما حدث منذ الانتفاضة الأولى مرورًا بمعركة 7 أكتوبر المجيدة؛ حيث تسطر المقاومة ملحمة غير مسبوقة في مجد الأمة.
يجب أن نرجع إلى الخلف ونستحضر تاريخ أمريكا الأسود، لكونها تأسست على أنقاض السكان المحليين لتلك البلد الشاسع المساحة والمكون من 51 ولاية والمعروفين بالهنود الحمر، الذي غزاه واحتله الرجل الأبيض الأوروبي وخاصة الإنجليز، وأباد المواطنين الأصليين وجردهم من حقوقهم الإنسانية. ومع مرور الأيام أصبحت أمريكا القوى العظمى والدولة المسيطرة على صناعة القرار في العالم اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، بدون مسؤولية أخلاقية توازي تعاظم قوتها وممارستها تجاه غيرها من الشعوب في هذا الكوكب المترامي الأطراف. يبدو لي أن عددا كبيرا من سكان العالم لا يعرفون ماضي هذا البلد الذي تأسس على الإرهاب والغطرسة والشعور بالعظمة والتميز عن الآخرين.
من هنا يمكن أن نعرف حقيقة نكران الإدارة الأمريكية لحقوق الغير، فهي مصاصة دماء الشعوب وضحاياها بالملايين من فيتنام إلى العراق التي قتلت مئات الآلاف فيها ثم ارتكبت جرائم تقشعر لها الأبدان في سجن أبوغريب، مرورا بأفغانستان ووصولا إلى فلسطين المحتلة. وقبل ذلك كله التفرقة العنصرية السائدة في أمريكا ضد السود والمسلمين الأمريكيين.
إنها الدولة الأولى في العالم التي استخدمت القنابل الذرية ضد المدنيين في اليابان وقتلت وجرحت مئات الآلاف منهم في 1945م في مدينتي هورشيما ونجازاكي اليابانتيتن.
وفي الختام.. يجب أن يعلم الجميع أن أمريكا لا تستطيع أن تحمي الأنظمة والحكومات على الدوام؛ بل الذي يحمي تلك الأنظمة تمسكها بحقوق الأمة وثوابتها، وإقامة حكم ديمقراطي عادل يُعبِّر عن آراء المواطنين وطموحاتهم نحو الحرية وإحقاق الحق والعدل.. ولعل الجميع يتذكر كيف تخلّت أمريكا عن حليفها شاه إيران خلال الثورة الإسلامية، كما أتذكر موقفًا للرئيس الباكستاني الراحل محمد ضياء الحق الذي قال:"أمريكا ليس لها صاحب، من يتعامل مع البيت الأبيض كمن يتعامل مع بائع الفحم لا يناله إلّا سواد الوجه واليدين".
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري