د. محمد بن عوض المشيخي **
الحرب النفسية والدعائية لها تأثير عميق في عقول البشر منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا، وإن اختلفت الطرق والأساليب المستخدمة، فهناك من يعتقد أنَّ من ينتصر في الحرب النفسية والدعائية، فقد ربح الحرب وسيطر على الأحداث بلا منازع!
والشائعات تعد من أخطر الأسلحة النفسية فتكًا بالجماهير وأكثرها خطورة؛ فكان قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ البداية قائمًا على التضليل والخداع، فقد أقنعت الصهيونية العالمية وسائل الإعلام في الدول الاستعمارية، أن فلسطين دولةٌ بلا شعب، لشعبٍ بلا دولة، والمقصود هنا جمع اليهود من الشتات في أنحاء العالم إلى "أرض الميعاد" كما يزعمون. يمكنك خداع الناس بعض الوقت، لكن لا يمكنك أن تستمر في الخداع إلى ما لا نهاية؛ لأن الحقيقة ستظهر يومًا ما. وهذا ما حصل في الفترة الأخيرة!
لقد تغيرت الأمور مع مرور الزمن، وتعددت المصادر في زمن ما يُعرف بالسماوات المفتوحة؛ فمكَّنت التكنولوجيا وخاصة أجهزة الهواتف الذكية الإنسانَ من رصد ونشر المشاهد التي تحوز على قناعته وتعبِّر عنه بسهولة ويسر. وقد بث المجاهدون في كتائب القسام عبر العالم كيف انهارت إسرائيل من الداخل؛ إذ تم أسر الجنود من ثكناتهم دون مقاومة بينما يهرب المستوطنون نحو تل أبيب.
تلك المشاهد المُذلَّة صَدَمَتْ زعماء الدول الاستعمارية التي زرعت إسرائيل في بلاد العرب، بداية من بريطانيا التي منحت أرضًا لا تملكها لمن لا يستحقها، مرورًا بأمريكا التي أرسلت أساطيلها لحماية نتنياهو، وشارك الرئيس جو بايدن وحكومته في التحضير لإبادة سكان غزة، ووصولاً إلى فرنسا التي منعت المتظاهرين ضد قتل الأطفال، وأرسلت مساعدات عسكرية عاجلة للكيان الصهيوني. هؤلاء الطغاة الامبرياليون في هذه الأيام يشعرون بالعار لنجاح المقاومة الإسلامية "حماس" في اختراق التحصينات الإسرائيلية وأنظمتها الأمنية المتطورة خلال ساعات ووصولها إلى العمق الإسرائيلي، وسيطرتها الكاملة لعدة أيام على أجزاء كبيرة من الدولة الصهيونية وقواعدها العسكرية، من عسقلان إلى غلاف غزة، وسط انهيار كامل للقيادتين العسكرية والأمنية والسياسية في تل أبيب، وانكشف مجددًا زيف أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، فجر السبت الموافق 7 أكتوبر. هذا التاريخ الذي سوف يُكتب بماء الذهب ويُنقش في ذاكرة الأجيال العربية من المحيط إلى الخليج عبر الأزمان، بل الأمة الإسلامية قاطبة، لِمَا له من رمزية عظيمة نحو تحرير المقدسات ودحر الصهاينة في الأراضي التي احتلت عام 1948 من أرض فلسطين التاريخية المُباركة.
لذا.. كان لابُد لوسائل الإعلام والدعاية الغربية التي تقف خلفها اللوبيات الإمبريالية، أن تُقلِّل من هذا النصر المُبين الذي يحدث لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي الذي يمتد إلى 70 سنة من الجهاد لتحقيق حلم الشعب الفلسطيني لإقامة دولته المستقلة كاملة من البحر إلى النهر؛ فكانت بداية هذه الأكاذيب الرخيصة في مقابلة أجرتها مراسلة صحيفة ذي إندبندنت (The Independent) البريطانية في الأراضي المحتلة مع أحد جنود الاحتياط في جيش الاحتلال يدعى (ديفد بن صهيون) المتطرف، والذي نسج خيوط هذا التضليل من خياله، وروج لقصة كاذبة دون دليل، زاعمًا بالكذب أن كتائب الشهيد عز الدين القسام قد ارتكبت مجزرة تتمثل في قطع رؤوس أربعين طفلًا إسرائيليًا في مستوطنة (كيبتوس كفار عزة) أمام أعين والديهم في أرض المعركة!! كما تزامنت هذه الفبركة الدعائية ضد المقاومة الإسلامية بهدف تجييش العالم وتشجيعه على التنديد بعملية "طوفان الأقصى" مع ما كررته صحفية إسرائيلية تدعى (نيكول زيديك) والتي تعمل في قناة (آي 24) من دعاية سوداء كاذبة حول إعادة تلك الرواية التي تتنافى مع أخلاق وقيم وتعاليم الدين الإسلامي لتلك المذبحة المزعومة.
الهدف الأساسي من هذه القصص الإخبارية الكاذبة والتي تفتقد إلى دليل ومحاولة نشرها على نطاق واسع عبر القنوات الإخبارية والمواقع الإلكترونية؛ وخاصة الناطقة باللغة الإنجليزية وكذلك الصحافة العالمية، بهدف تشويه صورة الإسلام والمسلمين، وتبرير قتل الأطفال في غزة بالطيران الإسرائيلي الذي أباد أحياء سكنية كاملة وشطب عشرات الأسر الفلسطينية من السجل المدني، وقتل حتى كتابة هذه السطور أكثر من 800 طفل وجرح 1600 منهم. كما قام الاحتلال البربري الإسرائيلي بقطع المياه والطعام والكهرباء عن القطاع بالكامل بهدف تجويع الناس وقتل من نجا منهم من القصف الذي طال حتى الآن آلاف الشهداء من النساء والشيوخ.
وبالفعل أثارت تلك المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة التي انتشرت على نطاق واسع في أرجاء العالم، ردود أفعال غير مسبوقة، فهذا الرئيس الأمريكي الذي سبق له القول إنه صهيوني أكثر من الصهاينة أنفسهم بادعائه زورًا وبهتانًا أنه شاهد بنفسه قطع رؤؤس الأطفال، ثم يتراجع البيت الأبيض عن ذلك لعدم وجود دليل.
فكانت آخر جرائم هذا الاحتلال مجزرة مستشفى المعمداني، والذي تم إبادة جماعية لكل من فيه وعددهم أكثر من خمسمائة شهيد من الأطفال والنساء والشيوخ، فكعادته، نفى جيش الاحتلال علاقته بهذه المحرقة، وإذا بالقنوات الغربية وفي مقدمتها شبكة (CNN) الإخبارية الأمريكية ذات الانتشار الواسع؛ تتلقف الرواية الإسرائيلية بعيدًا عن المهنية والموضوعية في العمل الإعلامي الذي يعتمد على الصدق والنزاهة وتحمل سرايا القدس المسؤولية عن قتل الضحايا.
وهكذا دفع الإنسان العربي لفترة طويلة- وما زال- أثمانًا باهظة، بسبب التضليل الإعلامي الذي يسود الخطاب الإعلامي الغربي بمختلف وسائله؛ فالوكالات الدولية الغربية والصحف الكبرى ذات الطابع الدولي التي تصدر في عواصم صنع القرار والشبكات التلفزيونية العابرة للقارات؛ تملك جيوشًا من المراسلين ينتشرون في كل ركن من أركان الكرة الأرضية؛ مما جعلها تسيطر على أكثر من 90% من مصادر الأخبار المتداولة في العالم، ونتيجة لهذا التفوق المعلوماتي تقوم هذه الوسائل بممارسة الإرهاب الإعلامي، وذلك من خلال استخدام المصطلحات المضللة، وغرس المفاهيم الخاطئة التي يحرص الإعلام الدولي الموجه على غرسها في عقول وأذهان الملايين من البشر، خاصة في أوروبا وأمريكا؛ فالإرهاب أصبح مرادفا للإنسان المسلم، فالمدافع عن حقوقه وأرضه المغتصبة يطلق عليه «متطرف وأصولي». وقد ساعد الغياب الكلي للعرب من الفضاء العالمي (باستثناء قناة الجزيرة الناطقة باللغة الإنجليزية) على وجود خطاب إعلامي أحادي الجانب، ينظر للقضايا العربية بعيون المنظمات الصهيونية التي تعمل على تزييف الحقائق وتلوينها منذ عقود طويلة.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري