عندما تكذب أمريكا

 

د. عبدالله باحجاج

رأينا كذبتها بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية والتي كانت سببًا في غزو العراق عام 2003 في عهد الرئيس جورج بوش الابن، ولم يعثروا على هذه الأسلحة بعد إراقة الدماء وتحويل هذا البلد العربي إلى فوضى شاملة حتى الآن، وببساطة وسذاجة، يتنصل كولن باول وزير الدفاع الأمريكي آنذاك عن الكذبة الأمريكية، ويصفها بأنها وصمة عار في حياته المهنية، وبدوره، يعرب توني بلير رئيس الوزراء البريطاني في تلك الفترة، عن أسفه لانضمام بريطانيا للحرب.. وطوى ملف الغزو بجرائمه الإنسانية والاقتصادية والثقافية بتصريحات الندم والاعتذار دون مساءلة أو عقاب!!

يتكرر السيناريو الآن مع غزة، بعد عملية طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر، فقد خرج للرأي العام الرئيس الأمريكي جو بايدن يُطلق كذبة تاريخية أخرى، من العيار الثقيل، وذلك عندما زعم أنَّ رجال المقاومة قطعوا رؤوس أطفال المُحتلين الإسرائيليين، في وقت تعاطى معها الإعلام الغربي بغباء كبير، سقطت فيه كبرى الصحف البريطانية والأمريكية، فغباؤهم لم يقُدهم إلى أن الكذبة فترتها الزمنية قصيرة، لكنها، ورغم قصرها، إلّا أنها عجّلت بصناعة قرارات أمريكية أوروبية، فقد منحت المحتل مباركة لشن عدوان شامل على غزة بلا استثناءات أو قيود على البشر والمدن ونوع السلاح، وبعتاد وأسلحة أمريكية ومظلّة عسكرية أمريكية وفرنسية وبريطانية وألمانية التي سارعت إلى إرسال طائراتها وأساطيلها الحربية للتضامن مع المحتل.

هذه الدول هي نفسها التي شاركت في غزو العراق، وهي نفسها الآن التي تقف داعمة بالمال والعتاد في حرب غزة، قرارهم الاستراتيجي واحد، ورؤية الواحد منهم هي رؤية الكل دون تدقيق أو تمحيص، رغم أن استخباراتهم قادرة على كشف الحقائق.. لكنهم لا يريدونها، ولو كشفوها لما كانت هناك مبررات للحرب. من هنا، نحمِّل هذه الدول مسؤولية المذابح في غزة التي تطال حتى الأطفال، ونحمّلهم الإرهاب والعنف الناجم عن هذه المذابح والذي قد يصبح ظاهرة يومية ليس في الأراضي المحتلة، وإنما في الشرق الأوسط كله، ولن نُبالغ إذا ما قلنا كذلك العالم كله، فكذبة قطع رؤوس الأطفال جعلت من الصهاينة في حربهم على غزة يستبيحون كل شيء ثابت ومتحرك، ومنحت المحتل زمنًا مفتوحًا ومدعومًا بقوتهم الحربية الضخمة في تدمير غزة، وقلبها فوق أهلها.

لن تُنسى جرائم هذه الدول الجديدة والقديمة، فتراكمها بإضافة جرائم أطفال غزة، وشلالات الدماء، تُرجع الذهنيات المتوترة إلى حقبة ما قبل القضاء على الإرهاب، مما تبعث الكراهية مجددًا وبصورة غير مسبوقة حتى في سيكولوجية الجيل الجديد، فماذا نتوقع من مشاهد جثث الأطفال، وهدم المنازل فوق ساكنيها، وحصار أكثر من مليوني مسلم برًا وبحرًا وجوًا لقتلهم إما بالقصف أو الجوع؟ والأهم هنا الآن، أن الشعوب العربية والإسلامية الآن أمام خارطة واضحة بالأصدقاء والأعداء في عالم يتشكل على التعددية.

وفي متابعتنا لبعض الأقلام وردود فعل النخب العربية على طوفان الأقصى، وجدنا هناك من يُلقي باللوم والنقد على رجال المقاومة في غزة، وتُحمِّلها مسؤولية سقوط الضحايا من مُنطلق الفعل وردة الفعل، وهذا تفكير سطحي لا ينفذ للتوصيف الصحيح أو وراءها عرب مُتصهينين، لأنه غاب عنهم الصراع التاريخي "التراكمي" مع العدو وسقوط الضحايا من جراء احتلال الصهاينة للأراضي المقدسة، وهنا كذلك ينبغي التأكيد أنه في قضيتنا "الوجودية" مع العدو الصهيوني، لا نخضعها لحسابات سياسية وعقلانية صرفة من حيث المنافع والخسائر الدنيوية.. إلخ.

وإنما هي قضية عقدية- دينية بامتيازٍ، بمرجعية إيماننا الصلب والمطلق بأن النصر سيكون لنا حتمًا، وإيماننا الصلب كذلك بأن كل ما يحدث داخل الأراضي العربية الإسلامية المحتلة أو خارجها.. كعملية طوفان الأقصى، ما هي إلّا صيرورات مهما كانت أثمانها ولآلامها.. ستُفرز الهويات، وتكشف الخلفيات، وتُنتج النصر المحتوم بإذن الله.. لذلك لا خشية من جنون المحتل، فلن ينجحوا في تهديدات الإبادة والتهجير رغم قوتهم المفرطة، ورم تعزيزهم بأساطير حربية وطائرات ومعدات ثقيلة.

أهل غزة هم الأكثر ارتباطًا بالله جلَّ في علاه، ويتم تنشئتهم على ذلك حتى قبل ولادتهم وبعدها حتى يتأسسوا على مشاريع الشهادة، لذلك هم في رباط مفتوح حتى النصر بإذن الله،، اختصهم الله للرباط " استثناءً" من دون المسلمين، لذلك فقدرهم أن يكونوا في أرض تحقيق النصر الآتي لا محالة، ولن يكونوا خارجه، ومن يكن مع الله فماذا سيكون مصيره؟ هل النصر أم الهزيمة؟

المصير والمآلات معلومة لنا نحن كمسلمين، وهي تشكل جزءًا من إيماننا بالخالق جلَّ في علاه، وهي تتجلى في آيات قرانية كثيرة، مثل، قوله تعالى "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" (الروم: 47)، وهنا لا بُد من وقوع النصر، فقد أوجبه الله كحقوق للمؤمنين، ونستشهد كذلك بنص الحديث الشريف التالي: عن أبي هريرةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: "منْ عادى لي وَلِيًّا. فقدْ آذنتهُ بالْحرْب. وَمَا تقرَّبَ إِلَيَ عبْدِي بِشْيءٍ أَحبَّ إِلَيَ مِمَّا افْتَرَضْت عليْهِ: وَمَا يَزالُ عَبْدِي يتقرَّبُ إِلى بالنَّوافِل حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذا أَحبَبْتُه كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ بِهِ، وبَصره الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ الَّتي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ الَّتِي يمْشِي بِهَا، وَإِنْ سأَلنِي أَعْطيْتَه، ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَّنه" رواه البخاري.

من هُنا لا نخشى عليهم من الإبادة أو التهجير، ولا نخشى من أرض الجهاد أن تُفرَّغ من مجاهديها، فهذا لن يستقيم مع حقائق الإيمان، والنصر الموعود من رب العالمين، فلن تحرك تهديدات الصهاينة ومن يقف معهم من قوى الظلم قيد أنملة من هذا الإيمان؛ بل العكس ستكون شلالات الدماء، واستشهاد النساء الأطفال وكبار السن وهدم المباني السكنية فوق أصحابها جرائم ضد الإنسانية سيكون مسؤولاً عليها ليس العدو فحسب، وإنما كذلك واشنطن ولندن وباريس وبرلين التي سارعت إلى إرسال طائراتها الحربية وأساطيلها لنصرة المحتل وفق معلومات كاذبة.

لا تقلقوا على غزة؛ بل القلق كل القلق على مواقفنا منها، وهي الآن في ذروة الجهاد عابر الحدود، وأقلّه الآن جهاد الدعاء، كل المسلمين الآن في مفصل تصفية للإيمانيات، فمن الصادق ومن الكاذب مع القضية؟ نستشهد هنا بنصوص قرآنية كريمة، رأينا فيها وكأنها تخاطب الفرد والجماعة والدول في حقبتنا الزمنية الراهنة، منها "مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ" (آل عمران: 179)؛ أي الصادق والكاذب، ولو أسقطناها على قضية غزة الآن، سنخرج منها، بأننا في حقبة التميز وفق منطوق الآية الكريمة، ويتأكد هذا المعنى في الآية الكريمة التالية "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" (المُلك: 2).

من هنا نُكرر القول.. لا تخشوا على غزة ومجاهديها، وإنما نخشى على أنفسنا من مواقفنا معهم؛ فالبعض يخشى حتى من الدعاء علانية وربما كذلك في نفسه.

الأكثر قراءة