ماجد المرهون
منذ انطلاقته الأولى قبل 49 عامًا في مسقط وبعدها بعام في صلالة، فإن تلفزيون سلطنة عمان الملوّن هو عتيد باق في الوعي القديم لأبناء جيلي الذي ينشد سرعة التقدم والتطور المتفاعل مع خطابات السلطان قابوس "نحو حياة أفضل"، حتى إذا فتحت لنا الشاشة الفضية نافذتها الثقافية أيقنا لاحقًا أننا لم نكن لنجد غيرها في "دروس تعليمية" تأتي في موعدها المحدد وبكل دقة من عصر كل يوم مع مقطوعتها الموسيقية المصاحبة بإسم "طفل الفيل" للموسيقار الأمريكي "هنري مانشيني".
ولم يكن جمهورنا محدود العدد يعلم شيئًا عن الجهود المضنية والتحديات التنسيقية التي تحدث خلف ذلك الصندوق الصغير، عندما كانت المعلومات الجديدة والغريبة تنساب كالماء القراح مع "العلم والإيمان"، والاخبار الطريفة تربطنا حسيًا بالعالم "من هنا وهناك"، والمسابقات المرحة والجوائز المغرية في "فكر تربح"، حتى إن ثقافتنا العامة حول أنظمة السير وقوانين المرور مع "الشرطة والمواطن" باتت تتعزز باستمرار، وازداد وعينا بأهمية الزراعة في "أرضنا الطيبة"، لنجد مع "الأسرة" تثقيفًا معنويًا وأخلاقيًا وصحيًا بإمتياز، ثم الخلاصة كل يوم جمعة مع "عمان في أسبوع".
ويستمر التواصل الإعلامي الأكبر في تقدم، ليصبح اليوم "عينًا" تفاعلية افتراضية مبنية على الواقع المواكب لمقتضيات عالم التواصل، وحاضرًا في الحدث متجدد وجديد ومتصل متعدد وغير بعيد، ومتلائمًا مع متطلبات الظروف الآنية وتطلعات المستقبل الآتية ومسخرا إمكاناته للرقي بوعي المجتمع إلى الحداثة بلا تناقض أو مناكدة ومحافظ صلب وعنيد على طابع الثقافة المحلية الأصيلة دون إسفاف أو مبالغة.
سيلمس المتابع لتلفزيون سلطنة عمان كل ذلك من اللحظة الأولى؛ لأن خط التحديث والتجديد لا يطغى على العادات والتقاليد مع الزخم الكبير للموروث الشعبي المحلي وبذاخة تنوعه؛ بل يساير كل ذلك جنبًا إلى جنب مع صعوبة الموائمة دون فرط أحد تلك العناصر شديدة الحساسية على الآخر. ولا ريب أن الحفاظ على وتيرة هذا التوازي لهو أمر غير يسير ومن ورائه رؤية ذات قناعة راسخة بضرورة بقائه متخذًا نفس النهج ما يجعل منه طابعا ذي بصمة أصيلة لا تتغير ومعيار وطيد لا يتبدل.
لقد تألق برنامج "الناس والخريف" في هذا الموسم بلمعانه الباهر في فضاء الإعلام التلفزيوني مع كوكبة فذة من الإعلاميين والفنيين والإداريين وصعدوا بذلك سقف الأداء العام إلى أعلى مستوى على القاعدة التي أسسها مجموعة سابقة من النجوم، كتألق نجم سهيل هذا الموسم في الأفق الجنوبي فجرًا ضمن مجموعة النجوم في كوكبة القاعدة؛ وهذا ما لاحظناه منذ البداية من خلال 3 أستوديوهات ذات تصاميم مبتكرة وأفكار خلاقة وعلى مدار 120 ساعة من العرض الاحترافي، ولعل تقليل نسبة الأخطاء إلى ما يقارب الصفر كما شاهدنا وفي عرض مباشر لهو خير دليل على ذلك.
صحيحٌ أن تلفزيوننا كان في صبانا محليًا عندما كنا نعتمد على هوائياتنا المنزلية المتواضعة بموالفتها بحثًا عن موجات البث الأرضي، ولكن كانت دقة المواعيد وحرفية الأداء لا يحيدان قيد أنملة عن المسؤولية التي تكفل بحملها منذ البداية، وها هو اليوم تلفزيون سلطنة عمان الرقمي عالي الدقة يرسل بثة المتميز عالميًا عبر الأقمار الصناعية في زحام القنوات الفضائية وهو محافظ على نفس المنوال الثقافي المعتاد في حلل متجددة وعبر منصة عين كخطوة متقدمة للأمام. وقد برهن لنا هذا التجدد من قبل وأكد عليه يوميًا في "الناس والخريف" كنوع من ضرب الأمثلة على الضبط الدقيق للإدارة مع 15 مذيعًا من دول مجلس التعاون في دورة مجدولة مسبقًا، وهنا لحظة تأمل في ليلة صرب سهيلية لهذا التنسيق المتقن مع تحديات حجوزات الطيران والفنادق لضيوفنا المذيعين الخليجيين في موسم الخريف الأكثر ازدحامًا، وكذلك إدارة جموع من ضيوف الحلقات اليومية لأكثر من شهر ونصف الشهر والذي تجاوز عددهم 300 ضيف. وتنسيق هذان العاملان معًا- الوقت والحضور- لهو من أصعب وأعقد الأمور، فضلًا عن فرق العمل الأخرى، كلٌ في تخصصة ولا أريد تخيل الأحوال النفسية التي تصاحب هذه الإجراءات وهي بلاشك عصيبة، ولذلك لا يسعني إلا أن أقف منبهرًا مُبديًا إعجابي منقطع النظير للمخلصين العاملين خلف الكاميرات وأمامها من منظورهم وخلف شاشة الفلورسنت المسطحة أو الفضية كما نعرفها من منظورنا.
قد لا يعلم المشاهد والمتابع حجم التنسيق الكبير والمضني الذي سبق هذا البرنامج والمتابعات الحثيثة والدقيقة، وأجزم انه لم يكن وليد محض للصدفة، فلا مكان هنا للمفاجآت أو ارتجاليًا كاملًا، وقد لا أنكر ارتجالية بعض المذيعين أحيانًا وعند الضرورة إبان بث البرنامج على الهواء، لكنه ارتجال في صميم الموضوع ولا يميل عن المسار، لكنه ينم عن وعي وفهم المذيع وتمكنه من أدواته المعرفية وهذا دليل آخر على حسن الاختيار. وليعلم من لم يعلم أن لكاميرا التلفزيون في بثها المباشر على الهواء رهبة شديدة تصيب البعض بحالة شرود وتصلب ذهني وخوف قد يودي بصاحبة إلى حالة نسيان مؤقت لكل شيء تقريبًا بصرف النظر عن قوة شخصيتة وتمكنه في مجاله فالأمر لحظي وليس مشهدًا تصويريًا مُسجلًا يحتمل التأجيل ويتسع للإعادة، إلا أننا لم نجد ذلك مع كل مذيعي برنامج الناس والخريف؛ سواءً العمانيين أو زملائهم الخليجيين ولا حتى مع الضيوف؛ بل على العكس تمامًا فقد وجدناهم يتعاملون مع ظهورهم المميز بأزيائهم الجميلة وحضورهم القوي مع لغة جسدهم المعبرة بكل بساطة وإرتياح، ولن يتسنى ذلك لولا وجود طاقم متفاهم ومتعاون خلف أجهزة التصوير ونبوغ ذهني لفنيي نقل الصورة مع مخرج حاضر الذهن متقد الحواس بسرعة ردة فعل يجب أن لا تتجاوز أجزاء من الثانية.
"الناس والخريف" ظهر في هذا العام بشكل مثير للإعجاب وبه وضع تلفزيون سلطنة عمان مجددا بصمته التي لا يمكن تقليدها في أي مكان آخر لعدة أسباب وأهمها الجو الإيجابي العام الذي يسود البرنامج وهو يرسل رسالة واضحة بتفاعله مع محيطه الطبيعي الجميل ولا شيء يضاهي جمال الخريف؛ إذ إن السماء والأرض ترسلان شحنات مستمرة من الإيجابية وتستهجن في هذه الأحوال المشاعر السلبية للحزن والكآبة، وكذلك ظهر التميز في نسخة هذا الموسم في الأفكار الجديدة الإبداعية بحيث باتت الأستوديوهات هي المتنقلة من موقع لآخر وقد أعجبتني الإنفعالات التلقائية لأحد ضيوف الحلقات أثناء لقائه في واحد من هذه الأستوديوهات؛ إذ قال: "لأول مرة أجري لقاء في وسط غابة".
أخيرًا.. وبعد الحلقة الاخيرة لهذا العام، نُرسل مع طائر "الرفراف" رسالة شكر وتقدير لكل مسؤول ومدير ومشرف وموظف وخبير وفني ومساعد وسائق وعامل قام على تسهيل إطلاق هذا العمل الرائع بصوره البصرية الأرضية الأخاذة والجوية الفضائية العجيبة وترويجه السياحي الضخم لجميع "أماكن" محافظة ظفار، والتي تتناسب مع كل فئات وشرائح المجتمع؛ بما فيهم "السائح الصغير". والشكر موصول لكل المؤسسات الحكومية والخاصة لمساهمتها المباشرة وغير المباشرة في إتمام وإنجاح هذا البرنامج. ولا أنسى مسك الختام، وهو المشاهد والمتابع الكريم، عماد وأساس هذا النوع من البرامج الجماهيرية التي بدونه لن تجد كل الأعمال الفنية طريقًا سهلًا إلى النجاح.