هل نختار مصائرنا؟!

 

مدرين المكتومية

يظل الاختيار مُعضلة إنسانية أزلية، وتظل جدلية "مُخيّر أم مُسيّر" تُهمين على طريقة تفكيرنا وتُؤثر على نمط حياتنا وأسلوب معيشتنا، فلا شك أن هناك بعض الأمور لا اختيار لنا فيها، فعندما نُبصر نور الدنيا لا يكون لنا حق اختيار الأبوين أو الوطن أو العائلة، وفي مراحل مُبكرة من الطفولة قد لا نختار المدرسة التي نذهب إليها ولا المناهج الدراسية التي نحشو بها أدمغتنا الصغيرة، لكن في تلك المرحلة ربما نختار فقط الصديق أو الصديقة، الذي لا يعدو كونه شخصاً نرغب في قضاء الوقت معه، سواء في الفسحة المدرسية أو خلال الإجازات، فكلها اختيارات سهلة ويسيرة بلا تعقيد في المشاعر أو اضطراب في النفسيات!

غير أننا نظل طيلة حياتنا في هذه الدنيا، نسعى دائمًا للبحث عن الاختيارات الصحيحة والاختيارات القائمة على الاقتناع والمنطق، حتى الحُب نفسه، ورغم أنَّ الأغلبية من البشر يربطونه بالمشاعر لا العقل، بالأحاسيس لا المنطق، فإننا في حقيقة الأمر وفي أكثر الأحيان، نحكم على علاقات الحب بالعقل، العقل دائمًا يُرجح كفة القلب، فإذا ما أدرك العقل أن القلب يتوق لشيء أو شخص ما، فإنه يُصدر أوامره العصبية إلى كافة جوارح الجسم لتنفيذ ما يطلبه القلب! ربما في بعض الأحيان لا يستجيب العقل إلى القلب، لو كانت حُجة القلب ضعيفة.. سأضرب مثالًا حتى لا نغوص في أعماق التنظير. المرء مِنَّا عندما يشعر بإحساس الحب والرغبة تجاه إنسان آخر، يخفق قلبه، ويظل ينبض بمشاعر جميلة تعزز إفراز هرمونات السعادة، وهنا نجد العقل يتدخل، فيعيش "الحبيب" حالة من الصراع بين عقله وقلبه، العقل يتحدث عن منافع وفوائد هذا الحب ويحسبها حسبةً دقيقة، بينما القلب يبحث دائمًا عمّا يزيد من نبضاته ويُنعش مرور الدم في أوردته وشرايينه، فإذا ما قال العقل إن هذه العلاقة غير محمودة ولا تناسب الشخص، يُعلن القلب هزيمته ويستسلم فورًا لسُلطة العقل. لكن في المقابل، إذا ما أصرّ القلب على "الحبيب" واشتعل الفؤاد بنار الحب واكتوى بلهيبه الذي لا يُحتمل، عندئذ يرفع العقل الراية البيضاء ويُبدي خضوعه التام لقوة القلب وسطوته التي لا تُقاوم.

قضية المصير والاختيار تُهيمن دائمًا على أفكارنا؛ بل إن البعض يتخذها مُبررًا للأخطاء أو الفشل، كأن يقول إن "القدر كتب لي الفشل أو الإخفاق"، في حين أن الأمر برُمته قائمٌ على الاختيار الأول الذي اتخذه الشخص، ثم سلسل القرارات الأخرى التي يقبل بها ويرضى عنها. لا شك أن الأقدار ترسم مصائرنا، لكن في الوقت نفسه نحن نتحمل مسؤولية أفعالنا، فعندما نقرر أن نسلك الطريق الأول ونبتعد عن الطريق الثاني، يجب أن نعي تمامًا التبعات التي ستترتب على كل اختيار، والنتائج التي يُفرزها كُل مسار نسلكه.

ولنا في علاقة الآباء والأبناء العبرة والمثل، فهناك من الآباء من يُربي أبناءه على حرية الاختيار القائم على التفكير السليم، ويُعزز في نفوسهم القدرة على تولي زمام الأمور، من خلال غرس الثقة في نفوسهم أولًا قبل كل شيء. لكن من جهة أخرى، نجد آباءً يمارسون الترهيب الفكري والنفسي والمعنوي على أبنائهم، فكُل حديثهم معهم قائم على التوجيه والإلزام والتخويف من العواقب، بل في أحيان أخرى العنف والتجريح والتقليل من قيمة الطفل ومن أهمية رأيه. في النموذج الأول نجد الأبناء الذين تربوا على حرية الاختيار ومن ثم تحمّلوا نتائج الاختيار، أكثر قدرة على التعايش مع ظروف الحياة ومتغيراتها، وأكثر استعدادًا لتقبُّل الإخفاقات، والأهم الاستفادة منها والبناء عليها، والتعلُّم من الأخطاء.

وأخيرًا.. علينا أن نعزز في نفوسنا وفي نفوس من حولنا، القدرة على اتخاذ القرار السليم، وتقبُّل الإخفاقات، والفرح بالنجاحات، والاعتماد على الذات، والتعاون مع الآخرين. علينا أن نغرس في الأجيال الصاعدة مهارة التفكير النقدي، والبحث عن الحلول لكل مشكلة نواجهها، لا أن نظل نبكي على الحليب المسكوب، ونندب الحظ ونُلقي باللوم على الأقدار. لقد جئنا إلى هذه الحياة كي نعيشها، ونتعلم من أخطائنا، ونُحرز النجاح، فلنعمل على كل ما من شأنه أن يمنحنا الراحة النفسية ويساعدنا على تخطي الحواجز ومن ثم بلوغ الأهداف وتحقيق الغايات.

الأكثر قراءة