السهر القاتل والأسرة الخليجية!

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

من النعم التي خصَّ بها الله البشر العمل والكدح في النهار والخلود إلى النوم في الليل لإراحة الأبدان والأجسام بعد يوم طويل من الحركة المستمرة والجهد الكبير في سبيل تحقيق سبل الرزق والوصول إلى حياة كريمة بعيدا عن الكسل والتخاذل والاعتماد على الغير.. فقد خاطب الله عز وجل، الناس في كتابه العزيز القرآن الكريم قائلا "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا".

وعلى الرغم من هذه الآيات الكريمة الواضحة في معانيها وضوح الشمس، إلّا أن الواقع مختلف تمامًا؛ ومنذ تسعينيات القرن العشرين ابتلت الأسر الخليجية وعلى وجه الخصوص النساء بالسهر إلى الساعات الأخيرة من الليل والنوم إلى ما بعد الظهر خاصة في موسم الإجازات إلا من رحم ربي؛ بل هناك بعض الأسر في بلدنا والدول المجاورة الخليجية من يستمر في السهر طوال أيام السنة إلى الفجر. فقد تحول الليل نهارًا وبالعكس وأحيانًا مع وجود الأطفال مع أمهاتهم أمام شاشات التلفزيون والأجهزة الذكية الأخرى كالهواتف الذكية وغيرها من الشاشات بما تحمله من برامج ومقاطع ومسلسلات هابطة تفتقد إلى القيم الإسلامية والتربية السليمة النابعة من ثقافة بلدنا وديننا الحنيف.

وتعود هذه الظاهرة إلى ظهور القنوات الترفيهية الخليجية ومسلسلاتها المكسيكية والأمريكية العابرة للقارات والتي تتنافس التلفزيونات الرسمية والخاصة في الخليج في بثها، على الرغم مما تحمله من مضامين غير مرحب بها لدى الحكماء من أبناء هذه الأمة المخلصين، ذلك لكونها أي المسلسلات، تختصر الحياة في الحب الزايف والمشاهد المبتذلة والخيانة الزوجية بعيدا عن سُّمو الأخلاق وصدق المشاعر والإخلاص عند الارتباط بالحياة الزوجية التي تقوم على العفاف.

ثم بعد ذلك بسنوات قليلة، ظهرت المسلسلات التركية والكورية وغيرها من المسلسلات التي أدمنها المجتمع الخليجي وعلى وجه الخصوص ربات البيوت وأصبحت الشغل الشاغل للكثير من الناس في الخليج العربي. وبالفعل تحرص الكثير من النساء على مشاهدة تلك الحبكة الدرامية والمقاطع العاطفية التي تتخللها الدموع الخادعة والكاذبة والحيل السينمائية وكأنها واقع، فأبطال الأفلام تحولوا مع مرور الأيام إلى نجوم وعظماء ونماذج لتلكم الشابات وخاصة المراهقات.

أما الشباب فلهم أيضًا نجماتهم المفضلات اللاتي أصبحن قدوة للاقتران بأمثالهن واستهواء اللبس والحركات الماجنة والمشاهد الخيالية التي تصور الحياة وكأنها جنة الله في أرضه ثم البحث عن شبيهات تلكم الممثلات بهدف الاقتران أو الصداقة، إذ يعتمدين على جمالهن الصارخ بغض النظر عن المضمون والجانب الإنساني كالعقل والفكر والقيم.

كما أن هناك العديد من الفنانين والشعراء في دولنا الذين يفتخرون بالسهر طوال ساعات الليل بزعم مناجاتهم لليل ويزعمون أنهم كائنات ليلية وليس نهارية عكس الفطرة الربانية، إذ يسود مجالس هؤلاء العزف على أوتار العود وإلقاء القصائد الشعرية والحديث إلى طلوع الفجر.

لقد أجمعت الدراسات العلمية على خطورة السهر ومخاطره الكثيرة التي تتسبب بالكثير من الأمراض المستعصية، كالسرطان وأمراض القلب خاصة النوبات القلبية وأمراض الجهاز العصبي بشكل عام.

فالنوم المبكر من الساعة 11 قبل منتصف الليل هو الوقت المثالي للصحة العامة للإنسان، وذلك لكي يريح الجسم ويحافظ على خمس أو ست ساعات يوميا، فالهرمونات التي تجدد خلايا المخ يفرزها جسم الإنسان في الساعات الأولى من الليل أثناء النوم قبل منتصف الليل.

ومن خلال تجربتي الشخصية، حزنتُ كثيرًا لما أصاب بعض الإخوة الذين نغادر مجالسهم مبكرا للنوم ونتركهم يسامرون الليل رافضين كل النصائح؛ إذ إنَّ من بين هؤلاء من أصيب بسكتة دماغية، بينما تعرض البعض للجلطات في شرايين القلب وكذلك الإصابة بالسمنة، هذا فضلًا عن الخسائر المالية نتيجة التأخر عن العمل الرسمي أو الخاص مثل المشاريع التجارية الخاصة بهم؛ إذ فضّل هؤلاء السهر الليلي والنوم وقت عمل الوزارات والشركات ووجود حركة الناس في أوقات الذروة الصباحية فهم بعيدًا عن الساحة.

كما أتذكر خلال عملي لسنوات طويلة في جامعة السلطان قابوس أن جميع الطلبة الذين قابلتهم بسبب وقوعهم في الملاحظة الأكاديمية كان سببهم السهر؛ فالطلبة الذين كانت نتائجهم في الدبلوم العام أكثر من 90 بالمائة ودخلوا الجامعة، وخاصة الذكور، قد جنحوا إلى السهر بعيدًا عن الأهل؛ حيث تأثروا بأقرانهم في السكن، ومارسوا التسكع في المطاعم والشوارع، وعند الذهاب إلى المحاضرات الصباحية ينامون على المقاعد الدراسية لعدم قدرتهم على متابعة الدروس أو فهم ما يدور حولهم من نقاش علمي.

وبالفعل أكدت العديد من الدراسات الحديثة أن السهر يأثر سلبًا على النواحي المعرفية والنفسية والعصبية؛ فالنوم لساعات كافية ليلًا يُساعد على تثبيت المعلومات في أذهاننا، كما إن الأرق الذي سببه السهر يؤدي إلى اضطرابات النوم والقلق الناتج.

إن الذين حُرِمُوا من لذة القيام مبكرًا لأداء صلاة الفجر جماعةً في المسجد، ثم الذهاب بعد ذلك لقضاء الأعمال والبحث عن مصادر الرزق الحلال فقد كانت خسارتهم كبيرة ولا يدركون خطورة مصابهم.

وفي الختام، يجب تنبيه الجميع إلى أنَّ المجتمعات العربية تتعرض لحملة منظمة وغزو ثقافي واسع النطاق لمسح هوية الأمة؛ وتستهدف هذه الحملة بالدرجة الأولى النساء اللواتي يقمن بتربية الأجيال الصاعدة، وذلك من خلال منصات نتفلكس الانستيجرام وتيك توك وسناب شات والقنوات التلفزيونية المحلية منها والعابر للقارات التي تعمل جميعًا على نشر الرذيلة باسم الترفيه المبتذل.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

الأكثر قراءة