د. مجدي العفيفي
عفوًا لهذه الحمحمة.. إنها صهيل مواطن عربي عالمي، أصله ثابت وفرعه في السماء، لا يحبس نفسه في غرفة الذات، ولا يلهث وراء لعبة خطف الأبصار في عالم متغيراته صارت أكثر من ثوابته، ومن ثم تلعب قياداته بالشعوب لعبة "البيضة والحجر" أمام الأعين لا بعد الإدبار!
وإن تعجب فعجب من أنفسنا، إما أننا نهرول وبسرعة الضوء إلى الماضي، نجتر الأمجاد، ونبكي على الأطلال، ونعيش عالة على الآباء والأجداد، ونحن.. ونحن.. إلى آخر مفردات هذه العائلة، وإما أننا نلهث إلى المستقبل، فنجعله وهميا بما نتوهمه باستخدام التسويف "سوف نفعل" و"سوف نعمل" و"سوف نكون".. و.. و..
أما اللحظة الراهنة المتعينة، باجتماعيتها وتاريخيتها، فهي لحظة شاردة، هاربة منا، أو نحن الهاربين منها، عن عمد وسبق إصرار وترصد، فلا وجود لها في رؤيتنا، مع أنها الجوهر، أو ينبغي ذلك، اللحظة فائقة الحساسية، تحليلها بموضوعية فرض عين، إذ لابد من تفكيكها وإعادة تركيبها على سنن علمية وأسس منطقية، مثل معدلات الكيمياء وقوانين الفيزياء، بعيدا عن طريقتنا المعهودة: "أعتـقـد" أن: (1+1=2)!!
اللحظة العربية والإقليمية حرجة.. تستدعي الوقوف أمامها وفيها وحولها، ليس على شاكلة "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل" تصوروا.. وقوف وبكاء معًا! لابد من الاستخلاص والاستقطار.. حتى يتسنى الإقلاع نحو الغد، وإلا سنفعل مثل طائر البطريق، أو نتمثل "شرك الغراب" الذي حاول أن يقلد صوت البلبل، فلا هو صار بلبلا، ولا هو عاد كما كان، بل نسي أن يكون غرابا.
هنا.. يتجلى دور أهل الذكر في كل تخصص، وأهل الاختصاص في كل حقل، ويا ليت من لا يعرف شيئاً لا يخوض فيه، حتى نرحم أنفسنا ومجتمعاتنا من الذين يتحدثون في كل شيء، ويجيبون عن كل سؤال، على طريقة :
"الأرض أرض والسماء سماء
والماء ماء والهواء هواء
والنور نور والظلام عماءُ
والنار قيل بأنها حمراء
والحر ضد البردِ قولٌ صادقٌ
والصيف صيف والشتاء شتاء
كل الرجال على العموم مذكر..
أما النساء فكلهن نساء".
كلنا مقصرون، كلنا مسؤولون، كلنا ظالمون لأنفسنا ومجتمعنا، كلنا طواغيت مع بعضنا البعض، كل واحد منِّا كأنه "لغم" يريد أن ينفجر في الآخر، لابد أن نفيق، حتى نختصر الطريق.
الاعتماد على مواجهة الذات -كفرد وكمجتمع وكدولة- هو عين الحقيقة، وعلينا أن نتذكر ونعي أن لا تعتمد على أحد كثيرا في هذه الدنيا، فحتى ظلك يتخلى عنك في الظلام.
لقد أتى علينا حين من الدهر في النص الثاني من القرن العشرين، ارتمينا في حضن روسيا وأيديولوجيتها فذقنا الجوع والفقر مع الأحلام الوردية والطوباوية فكان المد الشيوعي البغيض، وأتي حين آخر من الدهر ارتمينا فى حضن أمريكا فـ«نغنتنا» وأكلنا وشبعنا لكنها امتصت دمنا أوردة وشرايين، كما شرح لي ذلك أحد وزراء الخارجية المخضرمين.
لا هذا نفع ولا ذاك.. ولن.. لماذا؟ لأن جذورهم في الهواء، فالذين يؤمنون بأن قوة واحدة في العالم تكفي أكثرهم لا يعقلون، والذين يبيعون لنا الوهم كلهم خاسرون، والذين يعلنون أنهم (الأعلون) وأنهم المخلصون لنا من براثن الجهل ثمنهم لا يساوي جناح بعوضة، فلا يمكن للظل أن يستقيم والعود أعوج، غير أن المفارقة تبدو في أن هذا الشبح يطغى اليوم ويطفو على السطح مرة أخرى، وإن كان استنساخ التاريخ أكذوبة، فالتاريخ لا يعيد نفسه ولا أحداثه تتكرر، ولا ينبغي، إنه أكبر جهاز لتكييف "الهوى" انظر معي إلى منطقة الشرق الأوسط، أو "الشر الأوسط" كما يريدون له..هل يمكن..؟ شاركني الجواب، فالبدية ملزمة، والعندية مهلكة.
نحن المجتمع والدولة، نحن الوطن والمواطن، الكل في واحد، أو ينبغي ذلك.. الانطلاق لابد أن يكون من اللحظة الراهنة: سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، الانطلاق من الذات فردية وجمعية، الاعتماد على قوتنا مهما كانت منهكة، الضعيف يقوى، والصغير يكبر، والمريض يشفى، كل شيء هالك والهلاك توليد، وإن في الموت حياة، هذه جدلية الثنائيات، وجدل الأشياء والأضداد، وقانون الزوجية.
إنَّ تشخيص الحالة بمعايير موضوعية جزء من علاجها، والسؤال نصف الجواب، ومعارضتك لي دليل قوتي، إذا أحبك كل الناس فأنت ضعيف، وإذا كرهك كل الناس فأنت سيئ، وإذا اختلف الناس فيك فأنت أنت الرجل، وإذا أحبك الفاسدون فابكِ على نفسك".. سيقول قائل: الكلام جميل، لكن الفعل عليل، فأقول لابد من تلاشي أو تضييق المسافة بين التصورات والتصديقات.. هنا مربط الفرس، وعلة العلل، لابد أن نفعل ما نقول، فإن في ذلك مقتا كبيرا بل بغيضا.، ولابد من تدمير التصنيفات المذهبية الضيقة، هذا ليبرالي، وهذا ماركسي، وذاك سلفي، وتراثي، وحادثوي، ويميني، ويساري، ومتدين، ولاديني، وملحد، وعلماني، وأصولي، و.. و.. كل هذه العائلة المسمومة فكريا.
العالم يفكر فيما بعد الحداثة في الفكر والسلوك وطرائق العيش، ونحن لا نزال نبكي على الأطلال، ونشق الصدور، ولنا فيها زفير فقط، ونحني العقول أمام أصنام اللامعقول.
آن الأوان أن نلعب دور«الفاعل» وكفانا ممارسة دور المفعول فيه، والمفعول به، والمفعول لأجله، ربما نتجاوز عن وصمنا بالوصف القبيح إياه "نحن ظاهرة صوتية".. فجلد الذات العربية مرفوض ومرغوب، لكن نقد الذات مشروع، والشك طريق إلى اليقين، والسعي إلى الحق وصولا للحقيقة. إننا نريد الاعتماد على "البينات" و"الوقائع" و"الحقائق" و"البراهين" و"الأرقام" و"الإحصائيات"! لا نريد القرار المصيري علي طريقة "حدثني قلبي عن ربي".