المعتصم البوسعيدي
من شظفِ العيشِ في أحياءِ "ريو دي جانيرو"، ومن لفحةِ الشمسِ على جسدٍ نحيلٍ تكورَ في رمالِ شاطئ "كوباكبانا"، ومن قسوةِ صخرِ جبل "كوركوفادو" المُحتضن لتمثالِ المسيح الفادي "كريستو ريدينتور" أبصرَ بطلَ حكايتنا النور على الدُنيا، ثم ما لبِثَ أن عاشَ مرارة الفراق؛ إذ انفصلت يدا والديه عن بعضهما، وهجر هو كرسي الدراسة، وركضت به الحياة إلى الجلدِ المنفوخ يُجربُ حظه العاثر، "فلم تنثره طحينًا في يومِ ريح"، بل كان هو الريح الذي نثرَ مهاراته في شوارعِ "بينتو ريبيرو" حتى إذا ما دخل عين الإعصار "جيرزينيو" تقهقرت كنيته "مونيكا" وبدأ العالم يكتشف جوهرته الجديدة: الظاهرة رونالدو لويس نازاريو دي ليما.
لقد بدأت الآن رحلةٌ جديدةٌ للفتى البرازيلي ذي الاثني عشرَ ربيعًا؛ فبعدَ الهواية في فريقي "سوسيال راموس" و "ساو كريستوفاو" قادتهُ صفقة انتقال أولى لنادي "كروزيرو" عام 1993م بعمر 16 عاماً، فنفض النادي "الأزرق والأبيض" غبار الثمانينات بفضلِ لاعبهِ الجديد الذي لَعِبَ 44 مباراة سجلَ فيها 44 هدفًا، إحصائيةٌ مُذهلةٌ توجِت ببطولةِ كأسٍ غابت عن خزائن النادي لسنواتٍ طوال، وقادتهُ لقميصِ الذهب البرازيلي في المونديال الأمريكي الذي شهدَ تطريز النجمة الرابعة على قميصِ "الأرض التي لا تغيب عنها الشمس"، وما بينَ توصية واكتشاف الصائد الحذق "بيت دي فيسر" انتقل رونالدو إلى نادي "المزارعون" وأحد أقطاب كُرةِ الطواحين "بي إس في آيندهوفن"، وفي موسمينِ فقط (1994-1995م) سجلَ -ملك كرة القدم الجديد- 54 هدفًا في 58 مباراة، كما أحرزَ لقبي كأس هولندا وكأس يوهان كرويف.
هو مُبتكر الفرديةِ التي غيرت ملامح كُرةِ القدم الحديثة، فكانت الأرقام تتحطم تباعًا وهو ينتقل كزهرةٍ بين البساتين؛ فدفعَ "برشلونة" رقماً قياسياً -آنذاك- لأغلى صفقةِ انتقالٍ في موسمِ (1996-1997م) أحرز بها 47 هدفًا في 49 مباراة، وحققَ بطولتي كأس الكؤوس الأوروبية وكأس ملك أسبانيا، وتوج بالكُرةِ الذهبيةِ وجائزةِ أفضل لاعب في العالمِ كأصغرِ من يفوز بها على الإطلاق حتى الآن.
في خضمِ أحاديث كثيرة ولغط كبير حول استمرارية رونالدو في ارتداء قميص "البلوغرانا" وقع أخيرًا -وعلى غير المتوقع- مع "الأفاعي" نادي "إنتر ميلان الإيطالي" في صفقةٍ قياسيةٍ جديدة كان وكيل أعمال الظاهرة "رينالدو بيتا" ومساعده "أليكساندر مارتنز" اليد الخفية لهذا الانتقال الذي أشعلَ إيطاليا وفجَّرَ أفضل نسخة من النجمِ البرازيلي، والذي حققَ حينها لقب الأفضل في العالمِ مرة أخرى، لكن جمرة الفتى الذهبي أحرقته بعد "تراجيديا" نهائي فرنسا المونديالي عام 1998م، ونكسة الإصابة التي تعرَّض لها، والتي ما فتأت أن تزول، إلا وصرخة الألم تدوي في كُلِ ملاعب العالم بعد (6) دقائق من العودةِ المُرتقبةِ لساحرِ اللعبةِ وعرابها الجديد.
رونالدو في هذه الفترة ومع الإصاباتِ المُتعددة، غرقَ في العلاقاتِ وترف الليالي الصاخبة كعادة البرازيلي المُحب لبهرجةِ الحياة، لكنهُ -مع ذلك- ظل يُسابق الزمن للمشاركة في مونديالِ آسيا الأول عام 2002م، فعادَ -والعودُ أحمدُ- واصطادَ نجمةٌ خامسةٌ لبلاده، وتوج بلقبِ الهداف، وقصَّ تذكرة إلى نادي القرن العشرين وأفضل أنديةِ العالم "ريال مدريد"، وأكمل عقد "الغالاكتيكوس" ولم يحتجَ الأمر للانصهار في الكتيبة الملكية سوى دقيقة واحدة من أولِ ظهور، وفي العامِ ذاته حصل على لقبِ الأفضل في العالمِ للمرةِ الثالثة.
أرقام رونالدو مع ريال مدريد أيضًا مُذهلة؛ إذ سجل 104 أهداف في 177 مباراة وحصلَ على ألقابٍ فرديةٍ وجماعيةٍ محليةٍ وأوروبيةٍ وعالمية، لكن لعنة لقب دوري الأبطال استمرت تلاحقه دون أن يخطبُ ودها طوال مسيرته حتى اللاحقة منها، وبالرغم من خيبةِ مونديال 2006م أصبح رونالدو -يومها- الهداف الأفضل في تاريخ كؤوس العالم برصيد (15) هدفًا، قبل أن يُكسر الرقم عن طريق الألماني "كلوزه" في مونديال 2014م، ومع تكرارِ الإصابة وزيادةِ الوزن والتقدم في العُمرِ انتقل رونالدو إلى "آسي ميلان الإيطالي" غريم فريقه السابق "الإنتر" في عام 2007م، ويُمكنُ اختصار تلكَ الفترة بحديثِ "كارلوا أنشلوتي: عندما كنت في ميلان، وقعنا مع رونالدو وكان يزن 100 كيلوغرام وقبل المباراة الأولى أخبرته أنه لا يستطيع اللعب بهذه الطريقة، وأنه يجب أن يفقد الوزن، دخل المباراة ولم يركض، لكنه سجل هدفين" وانطلق بعد ذلك ليُحقق مع "الروسونيري" بطولةِ كأس العالمِ للأنديةِ والسوبر الأوروبي، ولكن كعادةِ جسدهِ "الزجاجي" تعرض لإصابةٍ خطيرةٍ أعلن بعدها العودة من هجرتهِ الأوروبية الحافلةِ للوطنِ الأم عبرَ بوابةِ "الفريق العظيم ونادي الشعب" نادي "كورينثيانز" في 2008م.
تعملقَ اللاعب "الكهل" وهو لا يلعب؛ بل "يتمشى في حديقةِ منزله" واستطاعَ تسجيل 35 هدفًا لناديه مُحققًا بطولةِ باوليستا وكأس البرازيل، ومع ظهورِ حقيقة ما كان يُعانيه "قصور الغدة الدرقية" أعلنَ -ببكاءٍ حارق- الاستسلام في 14 فبراير 2011م "عقلي يريدني أن أستمر، ولكن يجب أن أعترف أنني خسرت جسدي، حان وقت الرحيل"، علمًا بأن رونالدو حققَ برفقةِ المنتخب البرازيلي بطولتين في كأسِ العالم ووصافةِ بطولة ثالثة، ومثلها فعل بالنسبةِ لبطولةِ كوبا أمريكا، مع بطولة واحدة لكأسِ القارات، وبطولة كوبا أمريكا للناشيئن في 1991م.
حياةُ رونالدو كما ذكرنا صاخبة جدًا، لكنها بعد الاعتزال أصبحت أقل بكثير، وقد دشنَ فيلم عن سيرته الذاتية، علاوة على أنه أصبح مالكًا لنادي "بلد الوليد الإسباني"، مع قيامهِ بحملاتٍ تطوعيةٍ ومحاربة العنصريةِ وغيرها، وهو نجم شباك احتفالاتِ الفيفا وغيرها من المُناسباتِ الرياضية، ويحظى بتقديرٍ عالٍ من كُلِ اللاعبين، وثمة "صورة ذهنية" مفضلة عنه، كما هو الحال في أحاديث "صاحب الأنفة" النجم السويدي إبراهيموفتش، وتصريح "الحكومة" الفرنسي "بنزيما" يوم تتويجه بالكُرةِ الذهبية، إضافةً إلى مشهدِ لاعبي البرازيل في كأس العالم بقطر؛ حينما كانوا "يتبركون" بجسدهِ بطريقةٍ عفوية، فرونالدو حالةً خاصةً كلاعبٍ وإنسانٍ وظاهرةٍ رياضيةٍ مُتفردة، ومن الصعوبةِ بمكانٍ حصرَ سيرتهُ والتوقف عندها في مقالٍ بسيطٍ كهذا، وحسبي لو يُصبحَ محطة مهمة للإلهام، وهنا أختمُ بعبارةٍ تختصرُ ما يُمكن أن يُقال عنه: "الكثير من اللاعبين حققوا العديد من البطولات (والألقاب)، لكن لم يُكرر أحد مزيج رونالدو نازاريو دا ليما من المهارةِ والقوةِ والسرعةِ المُذهلةِ والتألقِ المُطلق على ملعبِ كُرةِ القدم، إنه أيقونة، أسطوري، خارق" ومهما تعددت الأساطير؛ فالظاهرةُ واحدةٌ ليس لها مثيل.