الباحثون عن المستقبل

 

سعود بن حمد الطائي

كانت اليابان دولة متخلفة في نهاية القرن التاسع عشر ويسودها النظام الإقطاعي حين استوى الأمير ميجي على العرش، وبالرغم من كونه يافعًا لم يتجاوز السادسة عشرة، إلّا أنه وضع يده على جُرح اليابان الغائر وأخذها بعيدًا إلى المراتب العليا بين الدول، بعد أن أوشكت أن تذبُل وتسقط كورقة في خريف بارد، وخلال حكمه الممتد لأكثر من أربعين عامًا قضى على النظام الإقطاعي وجعل من اليابان قوةً قارعَ بها الدول العظمى وانتصر على أعدائها في الحرب والسلام.

وتحولت اليابان بفضلِ جهوده الكبيرة من مجتمع زراعي متخلف إلى مجتمع صناعي حديث ومتطور سيطرت من خلاله على معظم دول الجوار وأخذتها العزة بعيدًا في هجومها على بيرل هاربور في المحيط الباسيفيكي، وأيقظت من خلاله أسدًا نائمًا ما لبث أن استفاق وحكم العالم الجديد.

الذي يهمُنا من هذه المقدمة، ليست إنجازات ميجي ولا حركته الإصلاحية ولا حروبه وانتصاراته، لكن تهمنا معرفة الأداة التي استخدمها ميجي في الطريق إلى تحقيق التفوق، وفي جهوده التي ارتقت معها اليابان من دولة منسية متخلفة إلى دولة من أغنى دول العالم كانت هذه الأداة هي العلم وكان التسلح بالمعرفة يده اليمنى وطريقه نحو النور والمراتب العليا.

كانت أولى خطواته قيامه بحصر الطلبة المتفوقين في جميع المدارس الأهلية؛ إذ شكّل منهم مجموعات مختلفة بعثهم إلى الغرب، كل مجموعة بمهامٍ محددة وعلوم مختلفة، فبعضهم دفع بهم إلى تخصصات الطب وبعضهم إلى الهندسة وبعضهم إلى الفيزياء وعلوم الأحياء وغير ذلك من العلوم التي تفوق بها الغرب على أقرانه من الدول الأخرى. ومع عودة كل مجموعة تنهي مهمتها الدراسية، إلى الوطن مسلحة بالعلم، يدفع بمجموعة أخرى من المتفوقين لتحل محلها في معين لا ينضب الارتواء من رحيقه الأزلي. وأوكل لهذه المجموعات المتعلمة تعليم المجموعات الأخرى للطلبة غير المتفوقين والأخذ بيدهم وتعليمهم والإشراف على تدريبهم، وما هي إلا سنوات قليلة، حتى بدأت اليابان تشق طريقها نحو المجد وتتحول إلى مجتمع صناعي قادر على الإنتاج والعطاء بغير حدود، كل ذلك وتراث اليابان وثقافتها لم يمسها عارض، ولم ينل منها طائف؛ فبقي نسيجها الاجتماعي صلبًا وبقيت مثالًا يحتذى به على مر العصور.

إنَّ القراءة المتأنية لتجارب الأمم والشعوب ومحاولة فهم كيفية تطورها والأساليب التي أخذت بها لتتبوأ مكاناً لها بين الكثير من الأمم المتزاحمة والشعوب الطامحة للحياة، وربما يكون الأمر ليس بالسهل فاختلاف الظروف الزمنية وتغير الأمكنة ونوعية الأدوات السائدة في تلك الحقبة ولكن الأمر الحاسم والواضح حتى الآن أن العلم والمعرفة والتعلق والنهل من مواردها الواسعة هو بالتأكيد أحد هذه العوائد وأهمها؛ فالشعوب الجاهلة دائمًا ما تأتي في مؤخرة الركب، وتظل شعوبها في أحوال من البؤس والفقر رغم الإمكانيات والموارد التي تزخر بها أوطانهم.

ومن هنا فبإمكاننا أن نتبنى بعضًا من هذه المقترحات التي ربما لو تم العمل بها أو ببعضها لتحقق غيض من فيض تلك النتائج التي نطمح لأبنائنا.

أولًا: تبني مقترح توجيه الاقتصاد إلى التصنيع؛ بما يستدعيه ذلك من تقديم للقروض الصناعية الميسرة وتقليل الضرائب وتخفيف أسعار الخدمات والغاز وما شابه ذلك، وأن تكون هذه الصناعات الجديدة بنسب تعمين 100%، وتعتمد أساسًا على خريجي الجامعات. وبكل تأكيد فإن البطالة تعني أن هناك تباطؤًا في الحركة التجارية وانزلاقًا للاقتصاد نحو الكساد، ولذلك فإنَّ معالجة أسباب الضعف ودفع الحركة التجارية إلى الأمام وتنشيط الاقتصاد بالمبادرات الوطنية، من شأنه أن يُخفف من حجم البطالة، وهذه بعض المقترحات الأخرى والتي ربما سوف تسهم أيضا في تخفيف حدتها والتقليل من نتائجها السلبية.

ثانيًا: أن يتم حصر جميع الباحثين عن عمل إلى تاريخ اليوم حصرًا دقيقًا وشاملًا.

ثالثًا: فصل جميع المتفوقين بعد إجراء مقابلات من قبل لجنة متخصصة لمعرفة ظروفهم واحتياجاتهم وتطلعاتهم والمجالات التي تناسب إمكانيات كل فرد منهم.

ثالثًا: ابتعاث جميع المتفوقين في أرقى الجامعات العلمية ودراسة التخصصات في المجالات العلمية كالهندسة والطب وعلوم الفيزياء والكيمياء وعلوم الطاقة وغيرها من العلوم.

رابعًا: إرسال المجموعة الثانية إلى جامعات أخرى لدراسة القانون وعلوم المحاسبة والتجارة وعلوم الإدارة الحديثة، وغير ذلك من التخصصات المساندة لتخصصات المجموعة الأولى.

خامسًا: إنشاء مؤسسة مالية تتولى عملية الإنفاق على ابتعاث الطلبة إلى الجامعات ورعايتهم حتى الانتهاء من الدراسة الجامعية ومساعدتهم على الحصول على أعمال في المجالات التي تخرجوا في جامعاتها.

سادسًا: تُفرض نسبة ومقدارها 5% من راتب كل متخرج حصل على وظيفة لاستخدامها في إرسال مجموعات أخرى من الطلبة.

بهذه الكيفية سوف يتحول المجتمع من باحثٍ عن عمل إلى مجتمع يبحث عن متخصصين ومتعلمين لإدارة المؤسسات والشركات العاملة في البلاد، ورغم أنها عملية مُكلفة ماليًا في البداية، إلا أنها مع الزمن سوف تسترجع الأموال من النسبة المستقطعة من رواتب الخريجين، وهي بكل تأكيد أفضل من البحث عن وظائف هامشية يقل الاعتماد عليها مع تطور الزمن.

وحيث إن أعداد الباحثين عن عمل تقدر بنحو يزيد عن 80 ألفًا، وهو عدد متراكم منذ سنين سابقة، فمن الممكن البدء بتنفيذ سياسات التعليم الشاملة لتعليم هذا العدد على مراحل متدرجة لكي لا تشكل هذه السياسة عبئًا على ميزانية الدولة المثقلة بالديون والمشاريع الإنمائية، ويمكن أيضًا اتخاذ الخطوات السريعة لإنشاء جامعات أخرى أو توسعة الجامعات الحالية لكي تستوعب أعدادًا كبيرة من الباحثين عن مستقبلٍ مشرقٍ في بلدٍ كان وما زال معطاءً لأبنائه.