الراهب الفرنسي

 

سعود الطائي

في سبعينيات القرن الماضي، حَصلتُ على بعثة مع زميل لي للدراسة في فرنسا، وكانت "تور بواتييه" المدينة التي وقع الاختيار عليها، لتكون مقر إقامتي، وكانت أنجيه هي المدينة التي اختِيرت لزميلي للدراسة فيها. والمدينتان متجاورتان، يفصلُ بينهما 100 كيلومتر من السهول الخضراء والأنهار الجميلة.

صورة داخل المادة بعد الفقرة الأولى.jpg
 

كنتُ أسكنُ في الدور الرابع في غرفة صغيرة تطل من بعيد على سهول خضراء يخترقها نهر اللوار، والكثير من القصور الجميلة من العصور الوسطى المنتشرة على ضفاف النهر. وعندما أفتح النافذة كل صباح، يتسربُ نسيمٌ عليلٌ باردٌ، وتتسرب معه أصوات غامضة تأتي من بعيد، أصوات عربية تأتي من تلك السهول الخضراء، وكانت تأتي معها أحيانًا أصوات صهيل الخيول وقعقعة السلاح والرماح وكانت هذه الأصوات تطاردني وكأنها تعرفني عن قرب وكانت تقترب أحيانا وتبتعد في أحيان أخرى. كانت الحياة في تور بواتييه جميلة وهادئة وكانت دراسة اللغة الفرنسية رغم صعوبة البداية تسير في سهولة ويسر.

وفي أحد الأيام زارني زميلي من أنجيه، فأخبرته عن تلك الأصوات البعيدة التي تأتي من السهول القريبة فألقى السمع برهة؛ فلم يسمع غير حفيف ناعم لأشجار السرو المنتشرة على جانبي الطريق وأرجع تلك الأصوات للشوق والحنين الذي نشعر به في كثير من الأحيان.

وبعد انقضاء ثلاثة أشهر، بدأت قبضة الشتاء القاسية تضعف قليلاً على الأشجار وتنفست بعضها الصعداء وأسقطت بعضها أوراقها الصفراء وهي تنتظر فصلاً جديدا على أبواب المدينة ولأنَّ تلك الأصوات كانت تطاردني كثيرًا واعتقدت أنها ربما كانت شوقا وحنينا فأحببت أن ابتعد عنها قليلا.

وقررت أن أزور زميلي في أنجيه في عطلة نهاية الأسبوع ونظرا لعدم توفر وسائل اتصال كثيرة في تلك الأيام؛ فلم أتمكن من الاتصال بزميلي لأخبره بمجيئي واعتقدت أنَّه سوف يكون موجودًا في أنجيه.

كان طريق القطار يمر عبر حقول خضراء جميلة أينعت أزهارها؛ فتشكلت منها لوحة طبيعية كأنما رسمتها ريشة رسام رقيق العاطفة وتساءلت مع نفسي: كيف يمكن للشاعر والناقد الفرنسي شارل بودلير أن يرى في هذا الجمال صورًا وحشية في ديوانه "أزهار الشر"؟!

 

ورغم ما كان يدور في نفسي من اضطراب لتفاعل الثقافات واختلافها فإن القطار أكمل طريقه إلى أنجيه عبر تلك الحقول الخضراء.

قدمت لسائق التاكسي عنوان سكن زميلي، وكان فرنسيًا ينتمي لعائلة ريفية تعمل في زراعة العنب كانت عيناه تميلان إلى الزرقة الخفيفة وكان ينتظر نهاية الأسبوع ليتوجه إلى قريته الصغيرة.

أشار بعينيه إلى مبنى مظلم وأوقف السيارة نظرت إلى المبنى وشعرت بخوف فقد كان مظلمًا وموحشًا أخرجت من جيبي قصاصة الورق اللتي كتبت فيها عنوان المبنى ألقى نظرة أخيرة عليها وهزَّ رأسه كمن لايستطيع أن يفعل شيئًا وقال لي هذا هو العنوان.

ترجلتُ خائفًا قلقًا بعدما دفعت أجرة السائق ووجدت نفسي أمام مبنى صامت مظلم.

كان العنوان عبارة عن بناية قديمة من عدة أدوار، وكانت سكنًا لطلبة المعهد القريب وكانت أمام المبنى ساحة خضراء تنتشر حولها بعض الكراسي الخشبية.

وللأسف لم يكن هناك غير الظلام الذي بدأ في التساقط على ردهات المبنى الخالي من سكانه تلفت يمينا وشمالا كان بعض الناس يمرون من حولي مسرعين فقد كانت عطلة نهاية الأسبوع على وشك أن تبدأ بعد قليل.

شعرت بالخوف مرة أخرى فلم يكن لدي مال لأوي إلى فندق صغير أقضي به ليلتي في هذه المدينة وكان القطار قد ذهب إلى محطات أخرى وبين كل سقوط لليل تنتابني مشاعر قلق وضيق.

كان بالقرب من سكن صديقي كنيسة قديمة من العصور الوسطى، تبدو موحشة كلما اعتم الليل، ومن أحد أبوابها خرج راهب عجوز يرتدي ملابس سوداء، ويحمل بيديه حقيبة قديمة. أخذته المفاجأة وهو يراني واقفًا كعمودٍ صغيرٍ أمام المبنى الخالي من أهله، مُستجديًا أن تنبعث فيه الحياة، ويطل زميلي من إحدى جنباته المُظلمة.

اقترب منى الراهب ونظر إليّ باستغرابٍ شديدٍ، وسألني:

  • أتنتظر أحدًا يا بُني؟ لقد ذهب الجميع في رحلة ظهر اليوم. لم يبق أحد هنا وسيعودون عصر الأحد.

نزلت كلمات الراهب على صدري المنقبض كصخرة ألقيت من مكان عالٍ، ولكن الراهب بادرني مرة أخرى.

  • تبدو غريبًا.. من أين جئت يا بُنيّ؟
  • من تور بواتييه.
  • لكنك لست من توربواتييه!
  • من أي بلد جئت؟
  • قلتُ، وقد استبدَّ بي قلقٌ عميقٌ: من بلد بعيد!
  • لمعتْ عينا الراهب، وقال: بلد بعيد
  • نعم
  • من أين؟
  • بلد بعيد لن تعرفه! من عُمان.

ذُهِل الراهب وقال لي: صدقًا أنت من عُمان؟

  • أتعرفُ عُمان؟ إنها بعيدة وغير معروفة!
  • هل أنت إباضي؟!

فاجأني سؤاله الغريب ونظرتُ إلى عينيه. وتذكرت أنني سمعت أبي يقول إننا إباضيون، وكان عقلي قلقًا ومرتبكًا فأجبته بامتعاض: نعم أنا إباضيّ.

وتوقعتُ أن يذهب ويتركني وحيدًا. لكن الراهب العجوز أمسك يدي بقوة وجذبني إليه، وقال لي: أنت ضيفي يا بُنيّ. فاقبل دعوتي للمجيء إلى منزلي هذه الليلة؛ فزميلك لن يأتي إلّا يوم الأحد.       

في الطريق إلى منزله، قال لي إنِّه يعلم مدى إندهاشي من ظهور راهبٍ عجوز من كنيسة قديمة يعرف الإباضية، ويعرف أنها منتشرة في عُمان، لكنني أستاذ للدراسات الإسلامية في جامعة أنجيه ومتخصص في دراسة الحركات والمذاهب الإسلامية التي ظهرت إلى الوجود بعد أن تحوّلت الخلافة الإسلامية إلى ملكية وراثية، وكانت أكثر اهتماماتي في دراسة الحركة الإباضية وقد قضيت 10 سنوات في وادي ميزاب في الجزائر، وعشت بينهم أحببتُهُم وأحبوني وذكروا لي أن لهم إخوة إباضية في عُمان، وكانت أمنيتي أن التقي بإباضي من عُمان، وفاجأتني الأيام بك واقفًا تنتظرني على باب الكنيسة، يا لها من مصادفة غريبة!

أخذني الراهب إلى منزله غير البعيد عن موقع الكنيسة. كان منزلًا من دوريْن، واسعًا جميلًا وقد خَصَّص لي غرفة نوم في الطابق الأول وبذل جهدًا كبيرًا لتقديم ما يمكنه  تقديمه، واعتذر إن لم يتمكن من مجاراة كرم أهل الجزائر وجبل نفوسة، وقضيتُ في منزل الراهب أمسية لم أكن أتوقع أن أعيشها، بعد أن ضاقت بي السُبُل وتساءلتُ من الذي ساقه الله لمن.

هل هو الراهب؟ وقد كانت أمنيته أن يلتقي بإباضيّ من عُمان وشاهده أمام باب الكنيسة منتظرًا إياه في غفلة من الزمن!

أم أنا؟ وقد تقطّعت بي السبل وأُقفِلَت أمام وجهي الأبواب ولم أجد مكانًا يؤويني في مدينة غريبة وشاهدتُ بابًا لكنيسة حُبلى بألفٍ عام من الأحداث، ينفتح أمامي ويخرج منها راهب متخصص في الدراسات الإسلامية!

في الصباح أخذني الراهب في جولة بالمدينة، وحدّثني كثيرًا عن حياته في الجزائر، وإعجابه بالمذهب الإباضيّ. وطلب مني البقاء لليلةٍ أخرى إلى أن يصل زميلي من رحلته، فخجلتُ من نفسي أن أُثقل عليه، وقد كان كريمًا، وطلبتُ منه أن يعذرني، وأن يأخذني إلى محطة القطار كي أعود إلى تور بواتييه.

وهنا تذكّرتُ تلك الأصوات الخفية البعيدة، وخطر لي أن أسأل الراهب عن تلك الأصوات، لكن فاجأتني إجابته!

أوقف الراهب سيارته، وقال لي يا بُنيّ إنها أصوات آبائك وأرواحهم في سهول بواتييه؛ حيث جرت معركة "بلاط الشهداء" وتوقّف نور الإسلام عن فرنسا وأوروبا منذ ذلك اليوم!

إنها أصوات عبدالرحمن الغافقي (والي الأندلس) ورفاقه.. إنها أرواحهم تناديكم وأنتم نائمون!  

إنهم المنسيون في بواتييه.