مقاطعة "شانشي".. منبع الحضارة الصينية ومزيج من رائحة الماضي وتطورات الحاضر

...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...

الرؤية- فيصل السعدي 

تضمن برنامج زيارات المعالم الصينية الذي نظمه البرنامج الصيني للتبادل الصحفي، زيارة ميدانية لمقاطعة "شانشي"، تلك المقاطعة التي تعد المركز الهندسي للصين وعاصمتها القديمة، والتي تعد منذ القدم مركز عبور التجار والباحثين عن الرزق ومنبع الحضارة الصينية وموطن الحرير والتجارة القديمة، وكانت موطنا لـ14 أسرة ملكية لما يقرب من 1100 سنة.

سرت في كل الأزقة والطرقات، لا يشغلني سوى أن أتعمق في تلك التفاصيل التي جعلتني أندهش من هذا المزيج العجيب بين رائحة الماضي وتطورات الحاضر، بين قدم الطرق ومسمياتها وبين حداثة العمارة، تلك المدينة شيآن التي أصفها بـ"الساحرة" والتي تعد العاصمة الرسمية للمقاطعة، فمن الوهلة الأولى التي وطأت قدماي تلك الأرض شعرت أنني أعود للوراء مئات السنين، ليسجل ناظري جمال مدينة تاريخية تجارية عريقة، فقد كانت النقطة الأولى لطريق الحرير القديم والمركز الأهم في ربط طرق التجارة بين الشرق والغرب من خلال السكك الحديدية الضخمة لقطارات الشحن التي تمر على أكثر من 40 منطقة وبلدا، وفي ظل كل هذه المشاهد التاريخية يشغلك تفكيرك حول الإمكانيات البشرية والعقول النيرة التي صنعت من الماضي حضارة أبدية ومن التاريخ حكاية.

إن المتتبع للتاريخ يجد أنه ومنذ القدم، تعرف مدينة "شيآن" بملتقى الحضارات القديمة، وذلك لمكانتها التجارية وموقعها التاريخي المهم في طريق الحرير، وعلى الرغم من أنها كانت محطات قديمة لكن امتدادها الحضاري تواصل بل ازداد أهمية وذاع صيتها، حيث إنها تعد من القواعد المهمة في الاقتصاد الصيني، فنجحت الحكومة الصينية في تحقيق التنمية الشاملة بجميع مدن مقاطعة شانشي وليس مدينة شيآن فقط، لتصبح المقاطعة صناعية ومنتجة من خلال الاستفادة القصوى من ثرواتها الطبيعية والزراعية، وذلك بتنوع محاصيلها مابين الخوخ والتفاح والشاي الأخضر وغيرها من المحاصيل، واحتوائها على المعالم السياحية، فهي مزارات لابد من زيارتها.

ولم تكن فقط التجارة والسياحة هي الأساس، بل يمكن لأي شخص أن يعيش لحظات من الاستجمام وسط كل تلك التضاريس الرائعة، والتنوع البيولوجي والاستمتاع باللون الأخضر الذي يكسو معظم مناطق الأرياف، فهي مكان مناسب للاستشفاء والبحث عن الذات والابتعاد عن كل تحديات الحياة.

وعندما تجوب المنطقة وتمر بجوار قاطنيها، يلفت انتباهك البساطة في التعامل وزيادة الوعي والمعرفة لدى السكان، فهم يعرفون الكثير، وكل منهم مشروع رواية وقصة، شعب ودود يتميز بالطيبة والمحبة، كما أنهم يعيشون بنفس نهج الآباء والأجداد مع بعض متطلبات الحداثة والتطور، دون أن تلوث المدنية أفكارهم.

لم تكن الزيارة فقط لاكتشاف تلك المقاطعة، وإنما شملت الكثير من التجارب والأحداث والتفاصيل، فمن التاريخ والاقتصاد والحياة المدنية والاجتماعية إلى الحياة العملية والتعرف على الالتزام والتنظيم والمسؤولية والتفكير نحو استشراف المستقبل بالمعنى الحقيقي لكل هذه المصطلحات.

لقد شاركت كأحد الصحفيين المشاركين في تغطية منتدى الحزام والطريق للتعاون الإعلامي لسنة 2022 في مدينة شيآن، بعنوان "التركيز على التنمية العالمية وتعميق الترابط والتواصل"، وذلك تحت رعاية صحيفة الشعب اليومية ولجنة الحزب بالمقاطعة، وبحضور العديد المسؤولين والممثلين للجهات الرسمية لمبادرة الحزام والطريق، وبحضور أكثر من 120 صحفيًا من ممثلي وسائل الإعلام من مختلف الدول، وتخلل المنتدى العديد من أوراق العمل المثرية وتبادل وجهات النظر لبناء أكبر وأهم مشروع تجاري.

لا أستطيع نسيان معالم البرج العظيم الذي يثير الكثير من التساؤلات، ولقد تعرفت على الكثير من الإجابات عبر المترجمة "فانغ يان لينغ" التي ظلت تحكي للجميع عن علو جبل "بوتاه" الأخضر بوسط مدينة يانآن، الذي يرجع تاريخ تشييده إلى ما قبل 1200سنة وأن مرجعه لأسرة "تانغ"، وكان البرج مزيجا من الطوب بثماني زاويا و9 أدوار بطراز معماري قديم وبنقوش تاريخيه ملفتة، فمن شرفة جبل بوتاه ومن زاوية ليست ببعيدة عن البرج يمكنك أن تشاهد حركة السيارات في الشوارع الكبيرة لتجمع بين الأصالة والحداثة، وفي المساء يزين البرج بالأضواء الجميلة ليشكل بذلك لوحة فنية مرسومة بريشة فنان مبدع.

انطلقنا للتعرف على متحف جيش التيراكوتا لضريح الإمبراطور الأول تشين،  ومن الوهلة الأولى تدرك أنه من العجائب، ومن يقرأ عنه ليس كمن زاره، فقد سجل المتحف أكثر من 80 مليون زائر صيني ودولي حتى 2020، وهو من المتاحف التي تقع شمال جبل لي، حيث جيش التيراكوتا لضريح الإمبراطور تشين، كما تم استقبال 187 دفعة من رؤساء الدول ورؤساء الوزراء لزيارته، بالإضافة إلى 506 دفعات من نواب الرئيس ونواب رئيس الوزراء، و1852 دفعة من الضيوف على مستوى الوزراء.

والمتحف عبارة عن ثلاث مقابر، والجيوش لم تكن فقط تماثيلا بشرية وإنما مزيجا ما بين العربات والخيول والأسلحة الحربية المتنوعة، واللافت في الأمر أن لكل مفردة ملامحمها الخاصة التي لا تتشابه مع غيرها، وهنا تكمن عظمة ذلك المتحف والقدرة البشرية في أن تصنع من الخيال واقعا، فعندما تكون بين زوايا المتحف تشعر كأنك تشاهد حربا حقيقية.

وخلال زيارتي للمقاطعة عايشت تجربة الحكومة الصينية في القضاء على الفقر من خلال تطوير المزارع وتوسيع أراضيها المنتجة، فقد شاهدت مزارع الشاي العملاقة لتصبح مصدر دخل أسر قرية "جيانغ جيا بينغ" الفقيرة بمدينة آنكانغ التي تشتهر بصناعة الشاي، بتوجيهات الحكومة الصينية وعزيمة أبناء القرية تحولت المنطقة إلى مزارع شاي نموذجية رائدة في تصنيع الشاي، لتتخلص 337 أسرة من الفقر، بالإضافة إلى سياسة الحكومة في توطين الفلاحين والأيدي العاملة في مجمعات سكنية قريبة من موقع عملهم، والذي ساهم في تقليل التكاليف ورفع من مستوى الدخل للمزارع والمصانع، وتوفير بيئة عمل مناسبة كما هو الحال في مصانع الحرير ومعامل المنسوجات وغيرها.

وعند الدخول لأي مصنع أو معمل سوف تشاهد ملامح الجد والمهارة في كبار السن المنهمكين في العمل، فتقدم العمر لم يقلل من حرفتهم ومن حبهم للعمل.

تعليق عبر الفيس بوك