ضجيج.. استنزاف.. هدر!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

 

"إنَّ توقُفَكَ عن التعلُم لقلة الوقت، يُشبه إيقاف ساعتك على أمل تثبيت الزمن". روجر فريتس.

-----

أحيانًا لا نفهم الأحداث وكيفيتها، ومآلاتها، وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه، إلا بعد فترة طويلة، وقد تطول الفترة لتكون طويلة جدًا.. أحدِّثُ نفسي كثيرًا عن أحداث مرَّت في سنين ماضية، كيف حدثت، وكيف مرت، وما الذي غيَّرته في النفس، وفي مسارات الحياة.. أتصور فيها بعضًا من الخذلان وكثيرًا من العثرات التي لا سببَ مُقنعًا لها وعنها، وأتذكر عنها ما يجب ذكره وما لا يجب، لكن أتوقف لبرهة عند هذه الـ"لكن"، وبعدما تمرُ فترات زمنية طويلة بحساب الزمن، أشعر أني أمر بفترة تأمل قصيرة ثم أتذكر ما الذي حصل بعد هذه الأحداث وكيفياتها ومآلاتها، فأجد أمامي إرهاصاتها، ضجيجها، وتحولاتها!

ولظروف ما، أحيانًا، قد تبقى القصة طي الكتمان والحكاية تحت أنقاض ما تم هدمه، إنما ورغم آلامها، ورغم تفاصيلها الحزينة، لكن تجد أن الاعتبار يرده إليك الزمن من دون أية ضغطة زر منك، تتأمل ذلك، وتشاهد المنظر بهدوء، رغم عدم تحريكك لساكن، رغم عدم مبادرتك للرد، لكن يأتي الرد بطريقة ما، وبلا أي تصرف منك، ثم تتذكر أنك بسيط ولا تملك من أمرك شيئًا، وأن الله له حكمة في بعض ما يحدث، إنها عظمة الخالق جلَّ في علاه،  يالله ما أعظمك.

الحياة بأكملها مفاهيم وحقائق، ومسارات مختلف عنوانها، تخطط لمسار ما وتعقد النية وتعتقد بأنك في المسار الصحيح، ثم تجد نفسك بلا حول ولاقوة منك في مسار آخر مختلف تمامًا بل لا يمت بصلة للمسار المخطط له، وتشعر حينها بخذلان الزمن، وأنك وحيد بوجه الأمر الذي لا تستطيع حتى توجيه دفته، ولما تنصرف دورة الأيام تجد أنك قد وضعت في مكان قد لا تحلم بأنك ستصله ذات يوم، هنا عليك أن تفهم وتستوعب أن الأمر عندما يكون بيد القادر الأحد ستكون الصورة كاملة وجميلة، وتدعو للإعجاب.

مما يحدث في تفاصيل معينة تشعر النفس أحيانًا أنه يتم استنزافها في معارك ليست لها، وبأماكن ليست بأماكنها، وبظروف غير مهيأة بالأساس، وما سبق يستنزف مجهودات لا طائل وراءها، ولا عائد يرتجى منها، أشبه بالاستثمار الخاسر مقدمًا، أشبه بلعبة القمار المحرمة!

يحكي لي أحدهم أنه في خضم ظروف استثنائية مرت عليه، وقبل أكثر من عقد من الزمان، وكان وقتذاك يعمل بالتجارة، وكان قد وضع خطة للنهوض وإعادة تشكيل العمل لديه وفق معطيات كانت واقعية وواضحة، وبدأ بعد ذلك بالتعاقد مع عدة عملاء وفق ما يقتضيه الوضع، وكان ذلك يعتبر تقدمًا مهماً لتجارته الصغيرة نوعاً ما، يُمكن أيضا أن تكون نقلة نوعية بالانتقال من ظروف إلى ظروف أفضل، كون جميع المتطلبات قد استحضرت، ولكن على طريقة أنا أريد وأنت تريد والله يفعل ما يُريد، حدث المحظور، وبأسباب خارجة عن النطاق العام للعمل، وأصبحت كل المخططات مثل "صرح من خيال فهوى" (على رأي إبراهيم ناجي)، وأصبح بين اختيارين أهونهما مر، إما أن يوقف كل التعاقدات وما يتبع ذلك من سوء سمعة متوقع، وممكن مشاكل شخصية مع عملاء لاذنب لهم (قد يصل الأمر لتبعات قانونية ليس بمقدوره تحملها) أو أن يشتري سمعته وسمعة منشأته، ويقوم بتنفيذ عقود خاسرة ولا عائد لها، ويستنزف جهدًا ووقتًا ومالًا، فأختارُ الخيار الثاني، والذي استمر بدفع ثمنه سنوات بعد ذلك، لكنه رغم الاستنزاف أشترى نفسه وسمعته، ولم يتهاون بحقوق الناس. ثم تبدأ سنوات الهدر، والنزيف لجهود لامردود لها، أوقات يبذل بها ما لا يجب بذله، جريا وراء لا شيء، وبضياع تام، ولا تسأل عن توجيه واستشارة، ولا تتحدث عن متوقعات قادمة، كسفينة تائهة فوق عباب المياه الزرقاء، ولا قبطان يقود ولا ربان ماهر، سفينة لا تعلم على أي ميناء سترسو، جهد ينتهي ويبدأ جهد، والضياع ما زال يُزاول دوره المدمر.

من يتابع كرة القدم ويتذكر مباراة مانشستر سيتي مع كوينر بارك الحاسمة للفريقين، السيتي للفوز بالدوري كأول لقب، والكوينز للبقاء وعدم الهبوط، وبعد قبيل انتهاء المباراة الملحمية أو قل صراع الأعمال الشاقة بين الفرقتين وبعد سيناريو ملتهب ودقائق مرت كالجحيم على السيتي، ووسط دموع اليأس التي انتشرت بين مشجعي السيتي، سجل أجويرو هدفًا تاريخيًا كان إيذانًا بانتهاء سنوات الضياع للسيتي، كما صاح وصرخ المُعلق الإماراتي فارس عوض، ما حصل مع السيتي هو الذي يُشابه ظروف توهان السفينة التي تاهت، وفقدت الأمل للرسو على أي رصيف للموائئ، كانت هذه السفينة تائهة في خضم غبة الضياع، وأمواج عالية تنذر بالأسوأ، ثم يبرز قوله تعالى: "لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا" (الطلاق:1).