مسقبل الإعلام الرقمي

 

 

مرفت بنت عبد العزيز العريمية

 

مُفاجأة غير متوقعة أن تنهار أعرق الإذاعات الناطقة بالعربية، وتغلق أبوابها بسبب الأزمات المالية المتتالية، فبعد 84 سنة من الخدمة انطفأ صوت "هنا لندن"، وخسر 382 موظفًا وظيفته واتجهت هيئة الإذاعة البريطانية إلى الخيار الرقمي، تخفيضًا للتكاليف.

توسونامي التغيير قادم، وليس خيارًا لأحد المواجهة بنفس الأدوات التقليدية، حتى الدراسات التي فندت سرعة التحول إلى الإعلام الإلكتروني لم تضع في حسبانها تبعات الجائحة الاقتصادية. فمن غير المتوقع أن تعود الحياة بعد انتهاء الجائحة، كما كانت قبلها. ينطبق ذلك على كل مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فالتحول الرقمي تسارع بقوة تأثير الإغلاقات المستمرة مع توفر الإمكانيات التي دعمت التحول.

يحارب الإنسان التغيير رغبة منه في المحافظة على القديم المألوف، ورفضا منه أن يقدم تنازلات أو خسارة مكاسب اعتادها، فكل جديد غامض ومجهول، لذلك يخشاه الإنسان.

إن حالة الصراع والتجاذب بين الأوساط الإعلامية والاتصال في العالم، بين إعلام جديد وإعلام تقليدي، ما هي إلا حالة من التبادل الفكري والمهني بين مؤيد للتعايش مع الواقع، وبين المقاوم للتحول التاريخي؛ فالإعلام الجديد أو ما يطلق عليه بالإعلام الرقمي، نتيجة طبيعية للتطورالإنساني وسبق أن كان الإعلام التقليدي إعلامًا جديدًا في زمنه، ووجد مقاومة من المحافظين. الجديد في الإعلام أنه تفوق على التقليدي بمراحل، بحكم التطور التقني ومساهمات المتلقي في صناعة المحتوى الإعلامي، وفي أحيان كثيرة يأتي المتلقي بمحتوى أفضل من المحتوى الذي يصنعه الصحفي، الذي يخضع لسياسات التحرير في المؤسسة الإعلامية.

وإن كان الإعلام الرقمي يعاني أحيانا من أشكاليات في المحتوى، ويحتاج إلى الكثير من الغربلة، والتصحيح الإملائي، واللغوي وفحص المعلومة، وآليات للرقابة على الشائعات، فإنه من المتوقع أن تتم معالجة تلك الإشكاليات مع الوقت وتطور التقنيات .

العالم يشهد هيمنة ثقافية لوسائل الإعلام العابرة للقارات والحدود التي تمتلك الإمكانيات الضخمة، والتي استطاعت في وقت وجيز، أن تهمش الثقافات الوطنية والمحلية، ومحت الهويات الثقافية، ونمطت الثقافات والعقول. لذلك من الضروري الانتباه لخطورة هذه المسألة، ورفع مستوى الوعي المجتمعي، بإعلام رقمي مضاد لا يقل قوة واحترافية، ومهنية عن القادم من خارج الحدود.

يعتقد البعض أن التحول الرقمي الذي شهدته المؤسسات الإعلامية، وتوقف إصدار الصحف المطبوعة فترة الجائحة حالة مؤقتة، إلا أن الواقع يقول غير ذلك، أقلها في الدول العربية؛ حيث إن هناك تراجعًا ملحوظًا في أرقام توزيع الصحف المطبوعة، وتراجع في نسب الإعلانات التجارية من قبل جائحة كورونا، بسبب تطور وسائل الإعلان الرقمي الذي أصبح يقدم إعلانات تفاعلية، سريعة الانتشار بأثمان قليلة، مقارنة مع تكلفة الإعلان المطبوع.

استطاعت  الصحافة الرقمية أن تتجاوز تحديات الصحافة الورقية، كتحديات التوزيع، ومساحة الحرية، وتكاليف الإنتاج العالية والرقابة والسيطرة، فالإعلام الرقمي أتاح للجمهور أنماطًا إعلامية جديدة، وعدم ارتباطه بالمكان والزمان.

وليس من المستغرب أن يواجه التلفزيون نفس ألم المؤسسات الصحفية، فالمستقبل للشبكات التلفزيونية المدفوعة؛ فالتحول الرقمي في الإعلام يعد واقعًا ملموسًا، والدول المتقدمة دخلت عصر الإعلام الرقمي، وأتاحت شبكات الجيل الخامس للممارسة الإعلامية، وأصبح الذكاء الصناعي جزءًا من التحول الإعلامي المعاصر.

ومن المتوقع أن يفقد الكثير ممن يعملون في قطاع الإعلام وظائفهم، بسبب إحلال الذكاء الصناعي محلهم، وسيتولى الذكاء الصناعي مهام التحرير والتسويق، وسيكون عمل الصحفي عملًا إشرافيًا، فتأثير الثورة الصناعية الرابعة واضح على قطاع الإعلام، مع ظهور تقنيات جديدة مثل إنترنت الأشياء والواقع المعزّز والروبوت.. وغيرها من التقنيات التي في طور التطوير.

ولكن قد يستغرق ذلك أعوامًا أخرى، أما في المستقبل القريب فإن العاملين في مجال الإعلام، سيضطرون إلى التكيف مع الذكاء الصناعي والآلآت، وأن يعملوا معهم جنبًا إلى جنب، وعلى المؤسسات الإعلامية، أن تخطط للتغيير الجذري في هيلكة عملها وتُجري تحولًا كبيرًا في صناعة المحتوى، وأساليب تقديمه للمتلقي والتحرر من الأنماط التقليدية الجامدة والمستهلكة في عرض المحتوى، ومنصات تفاعلية جاذبة تتناسب مع احتياجات الجمهور وأذواقهم. مما يتطلب منها جهدًا مضاعفًا وتطويرًا لبرامجها وآليات العمل والإنجاز، وتطوير التطبيقات الذكية، وتدريب العاملين للمرحلة القادمة حتى تتمكن من المنافسة والصمود.

إنَّ التحول الرقمي يتطلب تغييرًا حقيقيًّا في هيكلة عمل تلك المؤسسات، وتحولاً جذريًا في صناعة المحتوى الإعلامي، وطرق تقديمه للجمهور، والتحرر من القوالب الجامدة والساكنة، وابتكار أساليب جديدة تعزز مكانة وسائل الإعلام التقليدية، وقدرتها على التأثير من خلال منصات تفاعلية تواكب احتياجات الجمهور وأذواقه.

في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، عندما قررت صحيفة "ذا نيوز آند أوبزرفر" الأمريكية إطلاق أول موقع أخباري لها على شبكة الإنترنت، مدفوعة الأجر، حولت الصحافة الورقية المطبوعة إلى إعلام رقمي، آملين أن تحظى هذه الخطوة باهتمامات الجمهور، والاشتراك بالموقع، إلا أن الهدف لم يتحقق؛ بل إن صحفيتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست استحوذتا على أغلب المشتركين، وبالبحث عن الأسباب، وجدوا أن الانتقال إلى الصحافة الرقمية يتطلب فهماً لخصائص الوسائط الرقمية، واختلافات في طبيعة المحتوى الخبري، والجمهور المتابع بين الصحافة المطبوعة والرقمية.

الكثير من الأحاديث تدور بين أورقة المؤسسات الإعلامية التقليدية، في أنها فقدت البوصلة والقدرة على استقطاب الجمهور والمعلنين، وهذا يعد مؤشرا على ضرورة التغيير حتى يبقى الإعلام صوت التنمية والوعي والبناء.

في هذه المرحلة من التحول التاريخي، وحفاظا على ما تبقى من الزمن، على الإعلام التقليدي وضع خارطة طريق لرسم مستقبل الإعلام، بشكل عام، حتى لا تفقد المؤسسات جمهورها الحالي وموقعها المستقبلي، وذلك بفكر إستراتيجي يعيد النظر في صناعة الإعلام ، ويغري الجمهور على الاستمرار في المتابعة، بتوظيف التقنيات الحديثة في تقديم الخبر والصورة والمقال، ومساحات أوسع للحرية المسؤولة، والأهم من ذلك كله تأهيل الموارد الصحفية والإعلامية، والفنية للتعامل مع الجمهور بوعي؛ إذ إن البدائل الإعلامية المنافسة لم تعد محدودة والبقاء للأقوى تأثيرًا.