العالم فَقَدَ عقله

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

في عام 2010 نشرت مجلة الطبيعة "نيتشر" مقالًا مثيرًا للجدل تنبأت فيه بحدوث اضطرابات اجتماعية بالولايات المتحدة في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين قد تؤدي إلى انقسامات إلى كتل، وعن إمكانية انهيارها في حالة عدم تعامل النخب السياسية والاقتصادية، والاجتماعية مع ملف الأزمات المتلاحقة بالحكمة المطلوبة ومعالجة مسبباتها، وكان هذا التحليل مبنيًا على عدة مؤشرات تم تحليلها بنظريات رياضية قام بها علماء الرياضيات. وحدّد المقال مجموعة من المؤشرات التي قد تبدو منفصلة إلا أنها مترابطة وتؤدي إلى نتيجة واحدة وهي التفكك أو الانهيار.

ويؤكد بيتر تورشين الذي عمل على تحليل البيانات الضخمة من الأزمات التاريخية السابقة ودراسة العوامل التي تؤدي إلى صعود أو انهيار الحضارات أن هناك عوامل مشتركة تكررت عبر العصور كانت سببا في انهيار الحضارات من أهمها عدم المساواة بين الطبقات التي قد تحتاج إلى إعادة بناء الأنظمة لردم الفجوة المجتمعية.

وأشار إلى أن بعض العوامل إن توفرت قد تكون مقدمة لانهيار وشيك من بينها : انخفاض في الأجور والركود الاقتصادي وارتفاع الدين العام والفجوة بين الغنى والفقر والفائض في عدد الخريجين من ذوي المؤهلات العليا وانخفاض ثقة الجمهور بالحكومة و انقسامات بين النخب السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والإيديلوجية التي عادة ما تنقسم مع صعود المجتمعات نتيجة التنافس على الامتيازات فيما بينها مما يؤدي إلى عدم الاستقرار قد يقود المجتمع إلى حروب وصراعات، ومن ثم الانهيار لغياب التوازن الاجتماعي المفترض.

في حين أن دراسات أخرى تقول: إن من أهم علامات انهيار الحضارات تراجع في عدد السكان وضياع الهوية الثقافية وتراجع الأنظمة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ومن ثم تراجع الخدمات العامة وتفشي الفقر والبطالة والجرائم وأعمال العنف.

بعد قراءتي لكتاب "ظلال الغد.. تشريح العصر الحديث" للمؤرخ الهولندي يوهان هويزنجا، وجدتُ أنها ليست المرة الأولى التي يفقد العالم فيها عقله فعليًا، فما يحدث اليوم ليس بجديد، وقد تكرر على مدى العصور والحقب الزمنية، فكتب التاريخ مليئة بالأحداث والحماقات التي غيرت المجتمعات تارة إلى الرخاء وأخرى إلى الفناء، والسبب يعود إلى أن الإخفاق والانهيار مرحلة طبيعية تمر بها الحضارات الإنسانية مهما كانت قوتها وعظمتها فلا أحد في مأمن من التفكك أو الانهيار.

أما في ظل النظام العالمي، فإن المخاطر والتحديات التي فرضت على المجتمعات باتت أكبر، وبالأخص مع تسارع التطور التكنولوجي الذي أصبح يفرض علينا تحديات حضارية جديدة غير مسبوقة، لا تشبه المخاطر التي سببت في فناء أسلافنا. وتتسع المخاطر كل يوم بوتيرة أسرع عن ذي قبل حتى وإن طبقنا نظرية الأحداث المتوقعة لتفادي الإنهيار فإن طبيعة البشر النسيان وتكرار الأخطاء.

كتاب "ظلال الغد" الذي نشر لأول مرة في عام 1936؛ أي بين الحربين العالمية الأولى والثانية، رسم المؤرخ هويزنجا فيه واقع العصر الذي كان يعيشه، بأسلوب أدبي جميل وصف فيه العالم- آنذاك- بأنه كالمجنون الذي خسر عقله، وخرج عن نطاق السيطره والمنطق ، كانت تحليلاته مبنية على ملاحظة دقيقة ورؤية واضحة، لحقائق قائمة لا يخطئها النفس والعقل. يقول هويزنجا "إن أغلب الأشياء التي كانت مقدسة وغير قابلة للتغيير كالحقيقة والإنسانية والعدالة والعقل باتت محلا للتنازع والاختلاف، في ظل عجز المؤسسات عن أداء أدوارها وهوس النخب الاجتماعية بالسلطة والنفوذ، وتعثر منظومات الإنتاج التي توشك على الانهيار".

كان وصفًا دقيقًا للدمار الذي خلفته الحروب والأزمات على مكنونات المجتمع، وعلى المنظومة القيمية والأخلاقية في عالم مادي بحت. واليوم أشبه بالأمس، فمسلسل الأزمات والحروب مستمر. أخرجت الصراعات أسوأ ما في الإنسان من أفكار وسلوكيات وحب الذات والعنصرية وتدمير الآخر، وإن كانت النتيجة تدمير الحضارة الإنسانية، فإما أنا أو لا أحد. هذا ينعكس على كل شيء في الحياة من سياسة واقتصاد وفكر وثقافة ودراما وسينما ووسائل إعلام.

صوّر لنا هويزنجا واقع عصره بأنه نذير لأحداث غير سعيدة قادمة في ظل اللامبالاة من المجتمعات لإيقاف قطار التحول والتغيير، زمن كنت اعتبره حتى لحظه كتابتي للمقال "زمن الطيبين والقيم والرومانسية"، فماذا نقول اليوم ونحن ندور بين حجري الرحى التقدم إلى الأمام والتمسك بالمورث القيمي والثقافي فهل نحن نشهد مرحلة انهيار حضاري.

من طبائع الأشياء التغير والتطور حتى أعتى الحضارات الإنسانية وأعظمها كان مصيرها الفناء، فقد أكد المؤرخ أرنولد تونيبي في كتاب بعنوان "دراسة التاريخ"- والذي رصد فيه أبرز الحضارات الإنسانية- أن الحضارات العظيمة حملت بين طياتها أسباب نهوضها وزوالها معًا، بعض الحضارات استطاعت الاستمرار إلى حد ما بمواكبتها للتطور والتغيير مع الحفاظ على هويتها؛ كالحضارة الصينية والمصرية القديمة وبعض الحضارات لم يتبق منها غير الأطلال كحضارة المايا.

ما نشهده اليوم، قد يكون تدهورا وشيكا للحضارات الغربية التي أبهرت العالم بتقدمها وقيمها الرأسمالية وديمقراطياتها المحدودة. بعض المؤشرات توحي بأننا في مرحلة التحول الحضاري إن جاز التعبير التي قد تكون بداية لحضارة جديدة أو فكر جديد، فكل ما يدور حولنا من أحداث تنبىء بأننا نسير في خطوات إلى التغيير شئنا أم أبينا، تغيير لا نعرف عنه شيئًا، ولا نعرف متى وكيف سنواجهه. إنه مخاض لولادة منظومة جديدة قد تكون متعددة الأقطاب أو قطب أوحد.

بمجرد أن تصبح مُتفرجًا للأحداث من حولك وما يُتداول في وسائل الإعلام وشبكات التواصل حتى تتساءل: هل حقًا فقد العالم عقله؟ اما نحن نعيش مرحلة مخاض لمرحلة جديدة؟ هل ما ينشر من أخبار يحدث في الواقع؟ أم مجرد مبالغات من باب تهيئة الشعوب لحدث آخر جلل؟ وإن كان ما يحدث حقيقة، فهل نحن فقدنا عقولنا واستسلمنا للواقع لأننا لا نملك رفاهية الاختيار؟ أما أن طبيعة المرحلة فرضت علينا اللامبالاة وتقبُّل ما يحدث، لأننا تحت وقعة الصدمة لتسارُع الأحداث؟!