ناصر أبو عون
أوردنا في الحلقة السابقة ترجمةً وافيةً للورّاق الأكبر، والنسّاخ الأزهر الشيخ الفقيه (حمد بن سعيد بن عامر بن خلف الطائيّ)، والذي انتهى به المآل، واستقرت به الحال، مهاجرًا إلى غرب إفريقيا لينضم إلى جحافل المتنوّرين العُمانيين التي ما زالت تترى إلى اليوم أرسالا وأشتاتا في موجاتٍ متتالية لا تنقطع أوصالها، ولا تخبو أنوار مصابيحها؛ رافعةً راية الإيمان، ومُبلّغة رسالة الإسلام، تعبر بها دياجير المفازات والأصقاع، وتشقٌّ تحت وميضها ظلمات الغابات، وتجدّف بأضوائها في بحر الظلمات؛ لتنير العقول التي ضرب الفقر والجهل سياجه عليها، وتؤلَّف القلوب التي باعدت العصبيات بين لابتيها.
وفي هذه الحلقة نترجم لوالده وشيخه ومعلمه (سعيد بن عامر بن خلف بن صالح بن سعيد بن علي المشهور بالطيوانيّ (مكانًا)، والمنسوب لقبيلة البطَّاشيّ (حِلْفًا)، والمولود من ظهر (الطَّائيّ) نسبًا وصهرًا وجذورًا وأرومةً و(العقري النزوي) فقهًا وعِلمًا، وهو من مشايخ وأعلام القرن الثالث عشر الهجري. ورد ذكر مسائله الفقهية في مواضع شتى من موسوعة الشريعة الإسلامية المسماة بـ (لباب الآثار الواردة على الأولين والمتأخرين الأخيار) للشيخ العلامة الفقيه الناظم أبو علي سالم بن سعيد بن علي بن سالم بن عبد الله الصائغي المنحي العمانيّ.
وتجدر هنا الإشارة إلى أن سلمى البطاشية صاحبة كتاب (الطووانة)، قد نقلت إحدى مسائله الفقهية الشهيرة المتداولة على الألسنة، والمحفوظة في بطون المتون والرسائل الإسلامية المتناثرة، فقد أشارت إلى أن المُصنِّف الفقيه سالم بن سعيد بن علي الصائغي صاحب موسوعة (لباب الآثار) نسب بعض الأحكام الفقهية للشيخ سعيد بن عامر بن خلف الطائي؛ وذكرت منها [مسألة: فيمن غاب عن زوجته ولم يُعْلَم أين هو, فللحاكم أن يطلّقها كان عادلا أو جائرًا، وكذلك حُكّامه وولاته. فإذا غاب هذا الرجل عن زوجته ولم تدرِ أين توجّه، ولم يكن له مالٌ، ولا وليٌّ. فجائزٌ للسلطان أن يُقيمَ له وكيلا يحتجُّ عليه. وللزوجة خياران: إما أن تقوم بواجبها من ماله إن كان له مال، أو يطلِّقها. فإن طلّقها الوكيلُ فطلاقه صحيح على حسب هذا الوجه وذلك إذا كان السلطان عادلا وحُكامه الذين جعل لهم ذلك يقومون مقامه. وإن كان السلطان جائرا فأرجو أن لا يتعرّى من الاختلاف في جواز طلاقها من وَكَّلَه وقوامه تبعٌ له ويجري ما يجري عليه من الاختلاف. وعندي جائز الأخذ بالرخصة مع الحاجة إليها عند عدم وجود الأولى منه حرفا لضررها. لما رُويَ عنه عليه السلام: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام). ولا فرق في ذلك بين من غاب برا أو بحرا إذا لا يُعلَمُ موضوعه ولا تناله الحاجة. والله أعلم].
واشتهر عن الشيخ سعيد بن عامر بن خلف بن صالح بن سعيد بن علي أنه كان ورعا تقيا قابضا على مكارم الأخلاق وأصولها العشرة: (صدق الحديث، وصدق البأس، وأداء الأمانة، وصِلة الرّحم، والمكافئة بالصنيع، وبذل المعروف، والتَّذَمم للصاحب، وقِرَى الضَّيف ورأسهن الحياء)، وذاع صيته بين معاصريه بصفات جليّة، وسمات عَليّة؛ وأنوارٍ بهيّة؛ فقد كان مذعنا في طاعة ربّه، وعاملا بالكتاب والسُّنة وعارفًا حاذقًا بالنّسخ والوِراقة حاذقا فيها، بجانب اشتغاله بالعلم والفُتْيا، وذكر صاحب كتاب السلوى أنه نسخ لنفسه مصحفًا، وخَطّ في خاتمته آية سورة الأنعام (115): {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ}. [تمّت رقاعة المصحف الكريم نهار رمضان سنة 1226 من الهجرة الإسلامية بقلم الخادم سعيد بن عامر بن خلف الطيوانيّ النزويّ].
كان الشيخ سعيد أحوزيا منكمشا على أموره وعبادة ربّه، لا يعرف من الحياة إلا كل طريق لاحب، ولا يَشد سهما على قوس العلم لا يشوى، يصدق فيه قول أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها: (لله درُّ التقوى ما تركت لذي غيظٍ شفاء)، يمتاح العلوم الفقهية من متونها، ويستقي الفتوى من آبارها، ويستقطر العلم من كل مرتع مُخصِب؛ ويؤثر عنه أنه نسخ لنفسه العديد من أمهات الكتب؛ نذكر منها: "طهارة القلوب"، سنة 1262 هـ، و"شرح لامية الولاية والبراءة" المنسوب إلى أبي بكر أحمد بن النضر العمانيّ، وطلب من (علي بن مسلم بن حمودة الخميسي)، أن ينسخ له "شرح رائية الصلاة لأبي نصر الشيخ عبد الله بن عمر بن زياد، وخطّ الناسخ في آخرها: "تمّت، وهي هنا مائة بيت وأربعون، وكان شرحها وتفسيرها في سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة من الهجرة النبوية... وكان الفراغ من نسخها يوم الجمعة لثلاث وعشرين من جمادى الأولى سنة 1267".