الأمم الأخلاق (11)

د. صالح الفهدي

أخلاق الشاشة

دخلت التقنيات على المجتمعات بثقافاتها المتعددة التي لا تعرف الحياد، ولا تلقي بالًا لقيم وعادات وتقاليد ومثل ومبادئ أمة ومجتمع، فقد جاءت بقضها وقضيضها، وغثها وسمينها دونما تنقية أو تصفية، ومن هنا ظهر ما نسميه "أخلاق الشاشة" التي غدا يملكها أغلب سكان العالم، فأصبحت ذات تأثير مزدوج على البشر أكثر من تأثير أية وسيلة أخرى، وفي معرض هذا الحديث فإننا نتحدث عن الأثر السلبي لأخلاقيات الشاشة بقصد التنبيه نحوها، وتحديد مواطن تأثيراتها.

رغم فوائد التقنيات العظيمة فيما يتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي، والبحث المعلوماتي، والتواصل العملي في شتى المجالات الإنسانية إلا أنها أنتجت ثقافةً إما أنها كشفت عن أخلاقيات بعض الناس، أو أنها أصابتهم بلوثة ما تحمله من أفكار في أخلاقياتهم فأثرت عليهم تأثيرًا متفاوتًا.

نتجت عن "أخلاق الشاشة" توجهات عميقة لكون البشر الرقميين أصبحوا فاعلين ومتفاعلين في شتى الجوانب سلبًا أو إيجابًا بحسب الثقافة والوعي والميول، وعلى رأس هذه الأخلاقيات النزعة الإستهلاكية التي تتعلق باقتناء أحدث الهواتف الذكية على حساب حاجات أساسية لا يمكن تجاهلها، وعلاوةً عن تيسير الخدمات التي تتوفر عبر تطبيقات الهاتف، فقد شجعت الهواتف الذكية النزعة الإستهلاكية بصورة كبيرة خاصةً في جانب الطعام الذي تنامى الطلب عليه كثيرًا، فنشأت بسببه  cloud kitchen"" مطابخ السحاب هذا فضلاً عن السلع والمنتجات التي تثير الرغبات، ولا تلبي الحاجات! وهنا أصبح ما يطلق عليه الصحفي النمساوي روبرت ميسيك Robert Misik  بـ(الكائن المتسوق) وهي الكنية الجديدة للإنسان الرقمي المندفع نحو الإستهلاك بشراهة، أصبح (منمطًا) وفق قوالب السوق، ورهينة الموضة التي توجهه حسبما تريد دون أن يستطيع التخلف عنها وإلا سيكون "رجعيًا" في نمط حياته!

"أخلاق الشاشة" وفرت المناخ الملائم لظهور فئة السفهاء الذين وجدوا الطريق سهلاً جدًا للشهرة واجتناء المال من ورائها، الشهرة بالطبع لها ثمنها وأول ذلك مخالفة الأطر الأخلاقية الإجتماعية وإعلان التمرد عليها بالسلوكيات المشينة، والتصرفات المنحرفة، ونزع رداء الحشمة، وإزهاق ماء الحياء عن آخره!

وحيث إن الأمر بدا أشبه ما يكون بلعبة طفولية ساذجة يتلاعب بها السفيه بعقلية المجتمع بأسره؛ فلا بأس أن يتوسع في شق رداء الحشمة والستر حتى تتدخل جهات فرض القانون حينذاك فتعلن أنه تجاوز الخطوط الحمراء وعندها سيتم تطبيق القوانين المنشأة حديثًا لـ "أخلاق الشاشة".

"أخلاق الشاشة" وفرت لبعض أصحاب النفوس المريضة من "الذئاب البشرية" مستنقعات ضحلة للتصيد فيها، والتربص بمكرهم لإيقاع الضحايا بالإبتزاز العاطفي، الجنسي، أو المالي فأضاعوا أرواحًا بريئةً، وهدموا أسرًا بحالها، ونشروا أخلاقيات دنيئة لم يعرف لها المجتمع قبل ذلك وجهًا ولا شكلاً.

"أخلاق الشاشة" أوهمت صاحبها بأنه متمترس وراء ساتر، وأنه بعيد كل البعد عن من يتهجم عليهم بلغة بذيئة الألفاظ، هابطة الأساليب، فينعتهم بما شاء من الألقاب، ويشتمهم بما شاء من الشتائم وكأنه في مأمن من المحاسبة، واطمئنان من العقاب، ولو أنه أطلع أبواه بما كتب لصعقوا به -كما يفترض- إذ إنهم لم يربوه على هذه الأخلاقيات الوضيعة، فلا هو قدرهم برًا ومرحمةً بهم، ولا هو قدر المجتمع الذي توارث قيمه الأخلاقية منذ بواكير نشأته اعتزازًا بانتمائه له، وحرصًا على توطيد ثقافته، وإرساء جذور هويته.

"أخلاق الشاشة" هزت الضمائر التي تكونت أساسًا من التربية الفاضلة، ووضعتها في اختبارات حساسة جدًا أمام الشهوات التي لا تحتاج طريقًا، ولا مفتاحًا للوصول إليها بل أنها تتداعى وتنهال في كل طريق لبحث عن معلومة، أو متابعة لأمر نافع، وهذا ما يذكرنا بقول النبي- صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات" (رواه مسلم)، وهو ما يتجسد اليوم في أجلى معانيه، وأوضح صوره.

"أخلاق الشاشة" أضاعت مفهوم الخصوصية حتى أوصلت البعض إلى غرفهم الخاصة، ولم يعد لهم من خصوصية يحتفظون بها، بل أباحوا أسرار زواجهم، وعلاقاتهم العاطفية، وما يدور في بيوتهم، وكأنهم يبوحون بذلك لأقرب الناس إلى قلوبهم، وليس إلى سابلة الشارع..! هؤلاء لم يتركوا لأنفسهم شيئًا يذكر لم يتقاسموه مع الناس، ففقدوا معنى حياتهم، وخصوصيتهم، وأخلاقياتهم، فلم يكن من الغريب أن يستقبلوا المصائب، ويحيوا الخلافات فتلك نتاجات أياديهم، وحصائد ألسنتهم ونواياهم.

خلاصة القول.. إنَّ "أخلاق الشاشة" لها تأثير في مجتمعاتنا، ولا يمكن مجابهتها إلا بتعزيز القيم الأخلاقية في المجتمع، ومزيد من الإرشاد والتوجيه للنشء والشباب خشية الوقوع في براثن تلك الأخلاقيات المنحرفة، وهذا ما يجب أن يقوم به المجتمع دون تردد أو تباطؤ.