شمسٌ آثمةٌ

 

عمرو العولقي

في زمن سحيق ضارب في القدم، وفي مدينة بعيدة جدا، حيث تعانق أشجار السنديان هميم الغمام.

كانت الخيول تضرب الأرض بحوافرها، تاركة غبارها يعمم المدينة، السباق محموم والأصوات شقت صمت الصباح وهدوءه، وأخرست زقزقة العصافير الحالمة، واختلط الدم بالدمع، وتجمدت القلوب الماجنة، حين علا الصوت الجهوري:

"الآاااااااااان "

وفجأة حجبت الشمس، وتبدلت السحب البيضاء المتفرقة في السماء بسحابة سوداء عبرت فوق الحشود المنطلقة فتساقطت مطرا غزيرا، بأجساد مزقتها السهام، والدروع باتت أكفانا لحامليها، وبدأت المعركة بين الطرفين بل المحرقة.

 استلت السيوف من أغمادها، وتطايرت الأشلاء وتناثرت على ذلك السهل الفسيح، كجراد في قاع صفصف، لم يعد هناك مجال للتراجع فقد فشلت كل المحاولات لرأب الصدع بين المتناحرين واستبدلت لغة الحوار بلغة الصراع من أجل البقاء وأصبح الميدان هو الحكم، والبقاء للأقوى.

احتدم القتال وحمي الوطيس بين كر وفر تجندل الجند هنا وهناك، تصاعدت الأرواح تباعا، مودعة عالم لا يحسم فيه الأمر إلا بإزهاق المزيد منها، فلا سلطة إلا بنصر مُنتزع ولا حديث إلا بالدم.

اقترب الزوال ودنت الشمس حزينة، من الأفق مودعة يومًا أزهق فيه البشر بعضهم، وكأنها سئمت من ذلك الصراع الأزلي بين البشر وتمنت ألا تشرق من جديد، توقف القتال ورجحت كفة المعركة للقائد رماح فهلل الجند وهتفوا باسمه عاليا:

"يعيش رماح، يعيش رماح".

لم يدركوا لم كانوا يحاربون، فقد قيل لهم إن الحرب للرجال ولم يعلمهم أحد معنى السلام.

في تلك الأثناء وعلى السهل الذي تضرج باللون الأحمر، وقف القائد الأسير، سلام مضرجا بدمائه ومثخنا بجراحه محدقا حوله ولسان حاله يقول: "خسرنا المعركة"!

كبل القائد سلام وأقتيد إلى رماح الذي استقبله الأخير بابتسامة نصر قائلاً "ألم احذرك من مقارعتي والعبث معي، فكوا قيده الآن". مسح القائد سلام على وجهه وحدق بوجه رماح وقال بثبات: "عن أي نصر تتحدث فلولا خيانة نائبي الواقف إلى جانبك لرأيت نفسك في مكاني".

قام بكسر السهم العالق بكتفه الأيسر وأردف قائلاً "إن الخلاف بيننا لم يكن على الأرض ولا تقاسم الخيرات ولم ترغب يوما بالمشاركة والسلام بيننا بل أردت التفرد والسلطة ولطالما أحسست بأنَّك أقل شأنا مني فحكت الدسائس وسيست الحشود وخنت كل العهود والمواثيق ووظفت مرتزقتك لخدمة مطامعك الزائلة لا محالة لم تكن بحاجة لكل هذا ولم نكن عائقا أو تهديدا في طريقك  وكانت شعوبنا متحدة وتنعم بالأمان وكل ذلك لم يشبع أنانيتك وجشعك المستمر للحصول على التقدير والتبجيل".

قهقه رماح بصوت عالٍ متفاخرا "أنا قوة لا تقهر، ورجل لا أهزم، وفي الحرب كل شيء مباح، انتهى عهدك ومن معك وسيتم اقتيادكم لحبل المشنقة، لقد غربت شمسك يا سلام".

صاحت امرأة عجوز من طرف الميدان كانت تغيث الجرحى قائلة "لم ولن تربحوا أبدًا، فالحرب لا تجلب سوى الحرب".

وصاح آخر قد أسر: "خسرتم حين رفعتم راية الدم، وخسر الجميع أرواحهم، وخسارة الروح لا تعني الموت فقط".

أردفت العجوز والدموع بمقلتيها حرقة وبصوت أشج" كان بالإمكان تدارك كل هذا، لقد بنيتم معبدا للهلاك".

نصبت المشانق وأقتيد القائد سلام إلى المشنقة مع لفيف من أصحابه المقربين، وضعت الحبال حول الأعناق وانتظر منفذو الحكم إشارة القائد رماح وكل الأعين شاخصة باتجاهه.

أغمد القائد رماح سيفه وأطلق العنان لفرسه باتجاه منصة المشنقة بزهو وفخر ثم نادى "سلام هل من طلب أخير قبل موتك المحتوم".

رفع القائد سلام رأسه في شموخ الرجال الأقوياء مجيبا "يا رماح، قد نخسر جولة وقد تربح معركة وقد يحتل البلد، لكن الثورة لا تموت".

تعليق عبر الفيس بوك