أطوار وأشكال الصراع بين المقاومة والتطبيع

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

تفجُّر الصراع اليوم بين روسيا البوتينية والغرب على الساحة الأوكرانية لن يتوقف عند وجهه العنفي المُسلح وتحقيق روسيا لنصر عسكري على الأرض يمكنها من تأمين جزء مهم من مفردات أمنها القومي فحسب؛ بل سيمتد ليطال هواجس وقناعات وعقائد سياسية وعسكرية كثيرة في جغرافيات عدة من العالم.

لهذا تحرص روسيا وفق استراتيجيتها للصراع اليوم مع الغرب على إطالة أمد الحرب لأن في ذلك مكاسب كبيرة لها وعلى كافة الصعُد العسكرية والسياسية والاقتصادية؛ بل وحتى على مستوى العلاقات الدولية والفكر السياسي. فهذا الصراع رغم ظاهره العنفي المُسلح على أرض أوكرانيا، إلا أنه بالتداعي والمحاكاة سيمتد أثره وصداه ليعبُر الحدود والأجيال كأي تجربة إنسانية عرفتها البشرية وشكلت منعطفًا كبيرًا في نواميس التاريخ وقواعد السياسة والعلاقات الدولية.

الأزمة الأوكرانية كشفت للغافلين والذين وصفهم الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز وجعلهم بمرتبة أضل من الأنعام "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179 الأعراف)"، كشفت لهم حقيقة الغرب بجلاء أخجلت أعمالهم وحطت من قدرهم أمام أنفسهم قبل الآخرين.

العالم اليوم يتشكل من جديد، وشعارات الغرب النرجسي على محك الاختبار تتساقط وتتهاوى كل يوم، ومفاهيم المحاور والأحلاف تتشكل وفق قواعد جديدة عصبها الاقتصاد، وأسلحة الغرب لم تعد تتعدى الولولة والضجيج والتجييش الإعلامي والدعاء للحلفاء "المغرر" بهم بالصمود والنصر كحالة أوكرانيا اليوم.

الأزمات بطبيعتها على الصعيدين الشخصي أو المجتمعي تفرز القناعات وتبدلها بل وتطال العقائد الراسخة أحيانًا وتستبدلها بأخرى، وهذا ديدن البشر والتحولات والمنعطفات عبر سلسلة التاريخ البشري، والأزمة الأوكرانية اليوم أحد هذه المنعطفات الحادة والتي توجب على الأعمى والبصير معًا تقليب الرأي في القناعات والعقائد معًا للعقلاء في حال رغبتهم وشعورهم بأهمية البقاء.

نحن في الوطن العربي نخوض صراعًا داخليًا عنيفًا بين فسطاطين لا ثالث لهما، وهما تيار المُمانعة وتيار تمكين التطبيع مع العدو الصهيوني بذرائع ومُبررات لا تُحصى ولا تنتهي، وباستعراض عقلي بسيط يمكننا رؤية حجم التطور والمراحل التي قطعها تيار الممانعة حتى كشف حقيقة التطبيع ودعاته وأجنداتهم الخفية والمُعلنة لتمكين الصهيونية العالمية ليس من فلسطين فحسب؛ بل من مقدرات الأمة وحقها الطبيعي في النهوض واستعادة مجدها ومكانتها بين الأمم.

تيار التطبيع وبعد تطهير بؤر المقاومة وتجفيف فاعليتها في الأردن عام 1970 ولبنان عام 1982 وما بينهما كامب ديفيد عام 1979، لعب طويلًا- في زمن الغفلة- على تسويق أسطوانة أهمية السلام والاستقرار للمنطقة ووعود التنمية وحقن الدماء، وضخ إعلامه المأجور كل مفردات الهزيمة وعبارات العدو الصهيوني من "الجيش الذي لا يُقهر" إلى "الموساد اليد الطولى" إلى "الكيان الذي يقاتلنا باسم أمريكا"، والقضاء والقدر الذي لا يُقاوم ولا يُرد لتكريس الهزيمة النفسية، وإجهاد الوعي العربي وتطويعه للقبول بالكيان الصهيوني كجزء ومكون تاريخي من الأمة العربية.

ولم يُدرك هذا التيار الغافل مغازي التحولات على الأرض بوصول الثورة الإيرانية إلى سُدة الحكم عام 1979، بالتزامن مع خروج مصر من معادلة الصراع والقوة مع الكيان الصهيوني، ولا ما تلى ذلك من قيام وتعاظم فصائل المقاومة المسلحة في لبنان وفلسطين من معادلة الإقلاق إلى مرحلة توازن الردع والرعب مع الكيان الغاصب. فبدلًا من تنصُل تيار التطبيع من إذعانه وتبعيته العمياء للغرب والصهيونية العالمية ومخططها للأمة، في ظل تعاظم وصعود تيار المقاومة، بقي تيار التطبيع يهرب إلى الأمام حتى تكشفت جميع أوراقه واحترقت، وكما انكشف الغرب وتجلت حقيقته وحلفه الورقي "الناتو" اليوم في الأزمة الأوكرانية.

اليوم.. وجد بعض تيار التطبيع في فضيحة الغرب مبررًا للخروج التدريجي من عباءة الغرب تحت عنوان "النأي بالنفس"، ولكنه غفل عن الاعتذار لتيار المقاومة ولو بالكف عن إلحاق الأذى به فقط لا غير، هذا التيار والذي لولا وجوده وتعاظمه وتأثيره العملي على الساحة لكان حال عرب التطبيع والعرب المترددين عن التطبيع في أرذل المواقف؛ كون الغرب يُدرك أن التطبيع لن يمر ويتموضع إلا عبر القضاء على تيار المقاومة أو تطويعه وتركيعه عبر الحصارات والتجويع والحروب بالوكالة والتضليل الإعلامي ضده لحرف وتشويه حقيقته ورسالته وأهدافه.

والسؤال اليوم للمُطبّعين.. ما مصيركم ومستقبلكم لو رحل الصهاينة من أرض فلسطين غدًا إلى منطقة أكثر ثراءً وأمنًا واستقرارًا لهم مثل شبه جزيرة القرم أو أوكرانيا "أرض الميعاد السماوية"؟! وما تبريركم للأمة العربية والتاريخ لنُسككم ومحياكم لتمكين الصهيونية في جسد الأمة العربية لعقود خلت من الزمن؟!

قبل اللقاء.. فيما مضى كان طابور أمريكا من العرب ممن يُسمون أنفسهم زورًا بالحلفاء يبررون لها كل غيٍّ وقذارة تحت عنوان "قوة عظمى ومقتضيات مصالحها"، أما اليوم فقد تكشفوا بأنهم جزء من هذه القذارة والغي وليسوا حلفاءً ولا حتى أتباعٍ!!

وبالشكر تدوم النعم..