إعادة كتابة العقد الاجتماعي (7)

صراع العصبيات العربية

 

 

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **

العصبيات العربية داء مستحكم، جاء الإسلام لتحجيم جانبها "السلبي" المُتمثل في قصيدة الشاعر قريط بن أنيف مفاخرًا:

قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم // طاروا إليه زرافات ووحدانًا

لا يسألون أخاهم حين يندبهم // في النائبات على ما قال برهانًا

وبيت دريد بن الصمة:

وما أنا إلا من غزية إن غوت // غويت وإن ترشد غزية أرشدُ

وسعى الإسلام بتعاليمه إلى توظيف جانبها الإيجابي المتمثل في التعاون على الخير والبر والإحسان والعمران، ونشر دعوة الإسلام وحماية دولته الوليدة والدفاع عنها باعتباره جهادًا في سبيل الله، ونجح الرسول عليه الصلاة والسلام إبان فترة حياته في ترويض "العصبية العربية" وتحويلها إلى طاقة إيجابية فاعلة في تأمين دولة الإسلام الأولى في داخل الجزيرة العربية في مواجهة قبيلة قريش والقبائل المُتحالفة معها، أو خارجها في مواجهة عنجهية الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية اللتين كانتا تستصغران العرب وتنظران إليهم كأتباع، تتعاملان معهم عبر وكلائهما المناذرة والغساسنة.

لكن بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، عاد العرب إلى عصبياتهم، فتنازعوا وتفرقوا، فهي أصل "الداء العربي"، وكل تشخيص لهذا الداء قديماً وحديثاً يتجاهل "العصبية" هو تشخيص لـ"العرض" و"المظهر" لا "الأصل" و"الجوهر".

إن غلو "العصبيات" وراء كل أشكال المظالم والعنف والاستبداد والصراعات الدموية على السلطة ومغانمها، وهي أصل كل ما وثقه "ديوان العرب" مما سمي "المفاخر والمثالب"؛ أي الفخر بالقبيلة وهجاء القبائل الأخرى، وكل هذا البلاء الذي فرق العرب وأضعفهم في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، يرجع إلى جوهر واحد هو "صراع العصبيات"، فما هي "العصبية"؟

العصبية توليفة متفجرة من الغرائز الأولية للإنسان البدائي، هي مزيج من مشاعر الخوف والحقد والحسد والطمع.. الخوف من قوة الآخر، والحقد عليها، ثم الحسد والرغبة في تجريده من مصادر قوته، والطمع في الاستيلاء عليها، طبقًا للدكتور جان نعوم طنوس في كتابه الرائع "تفكك الدولة الوطنية.. صراع العصبيات في العالم العربي" (بيروت 2018).

وللقارئ أن يتساءل: أليست العصبيات منتشرة أيضًا عند الأمم والشعوب الأخرى قديمًا وحديثًا، فلماذا تخصيصها بالعرب؟

لا نكران لذلك، وفي مقالة سابقة قلت إن العصبيات داء البشرية الكبرى، وكل أمم الأرض كانت محكومة بها وليس العرب وحدهم، وقد سقط ضحايا كثر نتيجة صراع العصبيات الأممية. وأضيف هنا للحقيقة والتاريخ: إذا كانت أعداد الضحايا الذين سقطوا بسبب صراعات العصبيات العربية؛ سواء من أنفسهم أو من غيرهم وعبر تاريخهم تعد بالآلاف، فإن أعداد ضحايا العصبيات الأممية الغربية والآسيوية والصينية واليابانية والأفريقية والأمريكية العرقية منها والدينية والمذهبية، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية تعد بالملايين؛ أي لا يوجد أدنى مُقارنة، وحتى اليوم هناك أشكال من العصبية وحتى العنصرية موجودة وقوية حتى عند الأمم المتقدمة، واليمين الأوروبي المتطرف يزداد شعبية ويلقى تأييدا وقد أصبح مشاركاً في الحكم والتشريع في أوروبا.

لكن الفارق بيننا وبينهم، أن تلك المجتمعات، المتقدمة منها، تعترف بوجود وانتشار العصبية في مجتمعاتها، ولا تحاول أن تنكرها أو تخفيها أولًا، ولا تستنكف أن تعلن بأنها داء ثانيًا، وتعمل على بحثها ودراستها وتتبع أسبابها بحسب المنهج العلمي ثالثًا، وتقوم مختلف مؤسسات الدولة والمجتمع  التشريعية والإعلامية والتربوية والثقافية على إزالة مسبباتها ومكافحتها رابعًا.

لذلك نجحوا في الحد من آثارها عبر تفعيل "المواطنة" المتساوية، وسيادة "حكم القانون" وزرع القيم المدنية في نفوس الناشئة وخلق مؤسسات قانونية واجتماعية مثل: منظمات المجتمع المدني، والصحافة الحرة، والقضاء المستقل، والفزع لنصرة حقوق الأقليات الدينية والعرقية والضعفاء والمهمشين والمظلومين والمتضررين، وضحايا التمييز العصبوي، وكل أجهزة وقوى المجتمع والدولة تفزع لمساندة الحقوق والحريات في عملية توازن مدهشة بين قوى العصبيات وقوى المجتمع المدني.

لكن كل هذا الأمر لا يحصل عندنا؛ بل هناك من يتفاخر بعصبيته ويراها امتيازًا، فكيف يمكن تحجيم العصبويات في مجتمعاتنا؟!

يتبع،،،

** كاتب قطري