مقامة السايكوباتي

 

عائشة السريحية

 

وإنه يا سادة يا كرام، حكى لنا شاهد عيان، لا يعرف له زمان ولا مكان، حين كان يجول الأقطار والأمصار، عن مخادع أجاد الكذب والأعذار، يتفنن في أذى الأخيار، يهوى إشاعة الأخبار.

أطلق عليه النَّاس "السايكوباتي"، الذي وصل المدينة، يحمل بداخله نوايا دفينة، أظهر الابتسامة والأخلاق، وأدعى خير النسب والأعراق، شادا الحاجبين والأشداق، أخذ قلماً ومحبرة، دون أن يكون هناك من أجبره، ورسم طلاسم مشفرة، صادق هذا وذاك، ووزع بيديه الشباك، ويوماً بعد يوم، والسايكوباتي يجيد العوم، فقارع أحرف الأبجدية، وأهدى كل حرف هدية، يدعوهم للطعام، ويسقيهم معسول الكلام، وعين اسمه ألفا فقد أزعجه اسمه القديم، فلا هو عين ولا جيم.

وبعد لبسه حلة جديدة، وصياغة اسمه في الجريدة، فشل في كتابة القصيدة، فاجتره البكاء المرير، فارشاً الديباج والحرير، لأمثال الفرزدق وجرير، وحكى لهم عن قصته الوحيدة، كيف تخلت عنه زوجته فريدة، بعد أن ترك الجميع لأجلها، فتكبرت وركلته برجلها، فتعاطفت الحروف معه، فكان يعتلي ظهر هذا، ويتسلق أكتاف هذا، دون كيف أو ماذا، وجعل الحروف يخدمونه، ويحذف من اللوح من يلومونه، فأكثرت بعض الحروف المديح، وحجبت عنه القول الصريح، وتصاعدت الأغاني في الهواء الفسيح، وخرج ذات يوم للسوق فرحا مسرورا، ينظر حوله محبورا، وقد تداركته الركبان، من الشيبة والغلمان، يسألونه عما كان، ظناً منهم أنه جهبذ همام، ونابغة من الأعلام، فما كان منه إلا أن أخرج القصاصات اليتيمة، والتي حملها على ظهر البهيمة، فقال شاب في العشرين، ما هكذا سمعت في الأميين، فما بالنا بالمتعلمين، فرد كهل عليم، لا يخشى في الحق ملامة لئيم، وقال أو ليس فيكم عالم أمين.

فتالله إنها تفاهة، فقد ظننا حضورنا نقاهة، فغضب السيكوباتي وانفعل، ثم قام من مجلسه وارتجل، وسبب وعلل، ومن النقد تململ، فجاءه صديقه راعي الطبول، يجول في السوق ويصول، ويحمل غباء الفهم على العقول، فبأي جرأة تتحدثون، وعلى السايكوباتي تتجرأون، وعززوا بأربعة، أحدهم أكتافه مربعة، والآخر يغطي وجهه بأقنعة، وثالث أثار دخوله السوق زوبعة، ورابع أعلن أنه من كان مع السايكوباتي فهو معه، وحين انتشرت الضوضاء، وتعالت الأصوات، وارتدت الأصداء، وتوقفت أعمال الناس من العصر للمساء، جاء شهبندر التجار، ليفك عن السايكوباتي الحصار، ويطفئ ما اشتعل من نار، فقال: "يا قوم لا أفقه شعركم ونثركم، وما لنا وما لكم، فحكموا عقولكم، وانضجوا بفعلكم، فما فعلها التجار، وبينهم خلاف على الدرهم والدينار، ودعونا ندرس القرار".

فقال قائل: "إنها إذن المناظرة، ومن له حجة كاسرة، أو قصيدة آسرة، أو خطبة جاسرة، فليعتلي المنبر، ويُلقي علينا ما مكنه الله وقدر، وخير الكلام يعصر وينثر".

فتقدم الأول والثاني، وقال أحدهما: "نحن لها فوالله لا نبالي، وفي الميادين تظهر صدق الفعال، والحجة خير برهان، ولنبدأ بالرهان، وبدون قلم أو مسطرة، ولا فم في أذن مسيرة، أو ورقة محبرة".

فاعترض السايكوباتي وقال: "أما بعد فهذا احتيال، فلا مبدع يلقي من الخيال، ودعوني مع القوم ندرس الأمر ونكتب، ثم إليكم يحال، فما تقولونه محال".

وحين عرف شهبندر التجار أنَّ الوضع محرج، أراد أن يكون للسايكوباتي مخرج، فماذا يقول وهو يبيع ورق للناس، والوضع بات جد حساس، فابتسم الشهبندر ونادى، أن مابكم ياقوم، ذبحتم أخاكم باللوم، فقال شاهد من الحضور، لقد أذانا بالتعالي، يرمي الكلام والشبهات ولا يبالي، وقد عايرني ذات يوم بنعالي، وهو لا يجيد فتل الحبال، وقال بائع التين والزيتون، ما شهدنا على السايكوباتي زلة، وإن حججهم معتلة، فهو زبون مثالي، يشتري في السوق بلا جدال، وهؤلاء يكثرون الكلام، فمالهم وما للملام، السوق بضائعه متنوعة، فلا يصبحن كالأسد المقنعة، وكل يأتي ببضاعته مصنعة، ففكر الشهبندر واحتار، وأداربرأسه الأفكار، فأمر الجميع بالانصراف، فلا فائدة من الاصطفاف، وأمر السايكوباتي، أن يتخذ زاوية، وللآخرين زاوية، ومذ ذلك اليوم، لم يذق السايكوباتي النوم، فقد كان زعيما للمنبر، يأتونه بالخطاب المحضر، والنص الأدبي المعطر، فلا ناقد يقيم ولا متابع، والجمع يستمعون بتواضع، ولا مكان في السوق لمنافس يأتي، أو أديب في قوله يفتي، فكيف يصبح اليوم السايكوباتي، في السوق مجرد حكواتي؟!

الأكثر قراءة