الإسلام والعلمانية
د.عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **
ما الأسس الثقافية والسياسية والاجتماعية للعقد الاجتماعي الجديد؟
ذكرتُ في المقال السابق أن إجابتي تكون عبر محورين؛ الأول: المحور الديني، وهو إخراج الدين من التسخير السياسي لخدمة أهداف مصلحية ضيقة، ويتفرع عن هذا المحور 4 أسس؛ منها:
أولاً: إعادة صياغة العلاقة بين الدين والدولة. ويلخص الباحث السعودي الدكتور خالد الدخيل العلاقة بين الدين والدولة الإسلامية، تاريخيًا، في 3 مراحل: دولة النبوة، ودولة الخلافة الراشدة، ودولة المُلك العضوض. وفي المرحلتين الأولى والثانية تحقق أعلى مستوى ممكن من توحيد الدين مع الدولة، لكن في المرحلة الثالثة تغيرت العلاقة ما بين الدين والدولة، وتقدم المعيار السياسي والمصلحة السياسية على المعيار الديني في: تولي الحكم، وتداول السلطة، ليتميز المجال السياسي عن المجال الديني بدءًا بدولة بني أمية إلى يومنا هذا.
وأضيفُ هنا أن هذا التمييز بين ما هو ديني ثابت، ودنيوي سياسي مُتغيّر تقتضيه طبيعة الحكم والعلاقات الدولية، وقديمًا ميّز الفقهاء بين ما صدر عن الرسول عليه الصلاة والسلام بوصفه رسولًا مبلغًا، وما صدر عنه بوصفه حاكماً أو قاضياً أو قائداً للجيش أو بحسب الجبلة البشرية، وقرروا أن ما صدر عنه عليه الصلاة والسلام من وحي السماء فهو "السنة التشريعية"، أما ما راعى فيه الظروف السياسية والاجتماعية والعسكرية والجبلة البشرية، فلا يُعد تشريعًا مُلزمًا، على أن هذا التمييز بين ما هو دنيوي وما هو ديني يختلف عن نظام الفصل بين الدين والدولة بحسب المفهوم الغربي "العلمانية"، وهذا ما يؤكده الدكتور جمال سند السويدي؛ لأن الإسلام كمنظومة شاملة من المعتقدات والمفاهيم والسلوك يطرح أطرًا سياسية وأيدلوجية واقتصادية بديلة، وهو جزء لا يتجزء من الحياة بالنسبة إلى المسلمين. وأيضاً لأن الثقافات غير الغربية كالبوذية والهندوسية والإسلامية، لا تعرف مثل هذه الازدواجية بين الدين والسياسة، بعبارة أخرى، إن هذه العلاقة الثنائية بين الدين والسياسة محصورة ثقافيًا بالغرب.
إذن أين تكمن الإشكالية؟
يجيب السويدي: أنها بالأساس في توظيف الدين لخدمة السياسة؛ أي توظيف الثابت لخدمة المتغير (راجع كتابه "السراب")، ويبدو أنها إشكالية ملازمة للمجتمعات الإسلامية منذ توظيف رفع المصاحف لخدمة الصراع السياسي، يصعب تجاوزها كما فعل الغرب؛ كون السلطة والمعارضة توظفان الدين في الصراع السياسي.
ما أريدُ أن أنتهي إليه أن التمييز بين المجالين الديني والسياسي مبدأٌ معروف في التاريخ الإسلامي، بدءًا من تقرير الرسول عليه الصلاة والسلام المسلمين "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، ولكن هذا التمييز غير "العلمانية".
لم أَجِدُ مفهومًا مستوردًا تم تشويهه في الفضاء الثقافي الإسلامي مثل "العلمانية"، حتى أصبحت ترادف المروق والكفر!! مع أنها لا تعني سوى إبعاد تحكم رجال المؤسسة الدينية في شؤون الحكم والسياسة، إلّا أن البحث الموضوعي يقضي بأن الإسلام لا يرفض "العلمانية" بالمطلق، فهناك جوانب إيجابية تشكل قدرًا مشتركًا بينهما، منها:
- تأكيد "المواطنة" معيارًا للحقوق والواجبات بغض النظر عن المعتقد والقبيلة والطائفة.
- تعزيز كرامة الإنسان وحقوقه لكونه إنسانًا "ولقد كرمنا بني آدم".
- رفض توظيف الدين لخدمة الأغراض السياسية.
- تجريم توظيف دور العبادة لترويج أجندة سياسية حزبية.
- تأكيد حياد الدولة الديني والمذهبي بين المذاهب والطوائف والمكونات المجتمعية.
- منع تسلط المؤسسات الدينية على رقاب الناس عبر شرطتها الدينية بحجة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
- كسر احتكار المؤسسة الدينية لـ"الفهم الديني"، وفرض فهمها على المجتمع؛ فالقرآن نزل بلسان عربي مبين مُيّسر فهمه وتدبره للناس كافة.
- الإسلام مع العلمانية في فصلها للفضاءين الديني والسياسي، وأنه لا تعارض بين علاقة الفرد بخالقه على أساس "المعتقد الديني الحر"، وعلاقة الفرد بغيره من الأفراد في تنظيم الشأن العام على أساس "العقد الاجتماعي الحر".
- الإسلام مع العلمانية في كسر تحالف السلطة السياسية مع السلطة الدينية أو التيارات الدينية للاستئثار بالنفوذ وتبادل المصالح وإقصاء الاتجاهات الليبرالية.. يتبع،،
** كاتب قطري