د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري
يتطلب الحديث عن إعادة كتابة "عقد اجتماعي" بين الأنظمة السياسية القائمة وشعوبها في منطقتنا العربية، قراءة تحليلية معمقة للعوامل التي أدت إلى انطلاقة ثورات ما سُمي بـ"ربيع العرب" والتي عصفت بأوضاع المنطقة وأصابتها بتصدعات جسيمة، وكانت من تداعياتها الكارثية الخطرة على كيان ومستقبل "الدولة الوطنية العربية" حصول فراغ سياسي كبير استغلته ميليشيات متطرفة وتنظيمات عقائدية وطائفية وجماعات عصبوية نازعت "الدولة الوطنية العربية" سلطتها وشرعيتها، وسعت لتقويض "الأسس المدنية" التي قامت عليها الدولة الوطنية على مدى قرنين من الزمان، كان الهدف الأساس لهذه العصبويات تفكيك "أركان" هذه الدولة وتغيير "هويتها" الوطنية والقومية عبر وسيلتين؛ الأولى: هدم مؤسساتها الوطنية والدستورية وأبرزها "الجيش الوطني" وإفساد "القضاء"، والثانية: اصطناع كيانات طفيلية موازية لها وتحويلها إلى "كانتونات" متصارعة.
ارتدادات زلازل "ربيع العرب" هزت وأطاحت بالركائز التاريخية والممتدة قروناً متطاولة للاستقرار الظاهري للدولة الوطنية العربية؛ لتخرج "الأرض العربية" ما في جوفها العميق، من مخزونات متراكمة مقموعة قروناً عبر التاريخ الإسلامي تحت الغطاء السلطوي للدولة العربية، هي خليط من عناصر طائفية منغلقة، ومشاعر كراهية وعداء، وفزعات عشائرية تعصبية، ونزعات دينية متطرفة، خرجت على هيئة انبعاثات سامة انطلقت في الفضاء العربي: إفساداً وترويعاً وقتلاً وإراقة للدماء، تنشر الخراب والدمار، وتحارب السلطة الشرعية، وتهجر الطوائف الدينية والإثنية التي استوطنت المنطقة منذ العصور السحيقة.
وكان من نتائجها المأساوية مانشاهده اليوم أن دولاً عربية مركزية تفككت وأصبحت لا تملك أمر سيادتها. وأصبح قرارها الوطني مرهوناً بموافقة المهيمن الخارجي، وصارت جيوشها ضعيفة لاتقوى على تأمين الحماية لشعوبها، عاجزة عن الذود عن حدود أوطانها.
انتشرت هذه الميليشيات والتنظيمات العصبيوية في النسيج الاجتماعي لهذه الدول انتشار مرض السرطان في الجسد العليل، فأصبح التعافي عصياً، إذ تحولت إلى قوى ضارية لاتحترم سيادة الدول القائمة، تعبر الحدود لإسقاط أنظمة شرعية قائمة، أو حماية أنظمة متسلطة ظالمة، فقدت الحدود المرسومة حصانتها وحرمتها واستبيحت لصالح هذه القوى التي تتلقى توجيهاتها من قبل المتسلط الخارجي. وهكذا سقط "العقد الاجتماعي" المفترض بين تلك الأنظمة وشعوبها لحساب قوى الصراع الجديدة العابرة لحدود المجتمعات والأوطان .
دعونا نتساءل: لماذا انطلقت هذه الثورات الاحتجاجية في الدول المركزية العربية ذات الماضي الحضاري والثقل السكاني، دون دول الأطراف؟
أتصور أنَّ ما سمي بـ"ربيع العرب" ما هو إلا "ردة فعل" عنيفة على مجمل الأوضاع المتردية التي خلفتها سبعة عقود من حكم الثوار العسكر الذين انقلبوا على "الأنظمة الملكية" التي كانت تحكم المنطقة العربية قبلهم، وأسقطوا "العقد الاجتماعي" الموهوم، لصالح "عقد اجتماعي" جديد .
الثوار العسكر وعدوا ومنوا مواطنيهم والشعب العربي بالمنِّ والسلوى، وعدوهم بتحرير فلسطين، وتحقيق الوحدة العربية، وإقامة الديمقراطية، وتطبيق العدالة الاجتماعية، وإنجاز التنمية الاقتصادية، وتوفير المعيشة الكريمة للمواطن، وصدقت الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج وصفقت لقادة وزعماء الثوار العسكر، وسارت وراءهم تردد الشعارات القومية وتهتف ملبية بالروح والدم نفديك يازعيم. ثم تستيقظ هذه الجماهير، بعد حين، بعد أن صحت من غفلتها، لتكتشف وتصدم بأن آمالها قد تلاشت، وأن أحلامها قد تبخرت، وأن الوعود قد تبددت: لا فلسطين تحررت، ولا الوحدة العربية تحققت، ولا مشاريع التنمية نجحت، ولا الحياة الديمقراطية الموعودة أقيمت.
كانت أزمنة النظم الثورية سلسلة من عقود الفشل والضياع والفساد والخيبات، فشل قادة القومية العربية فشلاً ذريعاً، وخلفوا مجتمعاتهم وأوطانهم خراباً يباباً، تسلطوا على رقاب العباد وهيمنوا على مقاليد البلاد، ولم ينجحوا إلا في الإكثار من الفساد، وبددوا الموارد والثروات.
لقد كان نصف قرن من إهدار كرامة الإنسان العربي، انتهكت كافة حقوقه، وزج به في سجون وأقبية النظم الثورية؛ حيث تعرض لأبشع تعذيب يتعرض له إنسان على مر التاريخ الإسلامي كله، سحق آدميته، وخرب نفسيته، وأهدرت كرامته، وخرج مخلوقاً مهزوزاً محطماً يائساً فاقدًا لكل أملٍ. وللحديث بقية.
كاتب قطري