فوزي عمار
سألني طالب إنجليزي يدرس اللغة العربية في جامعة "ويست منستر" في لندن، التقيته بالصدفة في مُناسبة ثقافية تقيمها الجامعة في عام 2005، وحضرت هذه المناسبة بدعوة كريمة من أستاذ علم الانترلوجيا في الجامعة الدكتور صلاح الغباشي من مصر عميد عرب لندن بعد المرحوم الروائي الطيب صالح.
سألني الطالب البريطاني: ما معني كلمة الجهل في بيت القصيدة المعلقة لعمر ابن كلثوم التالية:
إلا لا يجهلن أحد علينا.. فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وهل الشاعر هنا يفتخر بأنهم قوم جهلاء؟ أم أن للجهل معنى آخر هنا؟
قلتُ: الجاهلية في اللغة ليست من الجهل، كما يعتقد البعض؛ بل هي الانصياع لنزوات النفس والهوى وعدم تحكيم صوت العقل؛ فالعقل عقال من نزوات الغضب وهوى النفس. لذلك ما زال حتى اليوم أهل العراق- والخليج عامة- يطلقون كلمة "جهال" على الأطفال وهم الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم، والبعض ينطقها "يُهال".
ولم يكن العرب قبل الإسلام جهلاء؛ بل كانوا يقيمون المهرجانات للشعر مثل سوق عكاظ مهرجان الثقافة والشعر والفخر والمدح للخير وهجاء الشر والبخل والظلم. وهنا في بيت الشعر لا يفتخر عمر ابن كلثوم بأنهم قوم جهلاء بمعنى غير مُتعلمين؛ بل يفتخر بأنهم قوم يفعلون ما يريدون دون قيد ولا شرط، فلا دين يعصمهم ولا إنسانية ولا قانون حقوق إنسان!
فجاء الإسلام وانتهت الجاهلية وأصبح العقل والضبط والربط، سمة الحياة، وحُرّم القتل والسرقة وكراهية الآخر؛ بل يجب أن يحب المسلم لأخيه بمثل ما يحب لنفسه، فمن عمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن عمل مثقال ذرة شرا يره.
كما إن الرسول لم ينكر على العصر الذي قبله الأخلاق؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، بمعنى أن الأخلاق كانت موجودة وجاء الإسلام ليكملها. فلقد قال سيد الخلق عن حلف الفضول في الجاهلية: "لو دعي به في الإسلام لأجبت". وهو حلف دعت له قبيلة هاشم وزهرة وتميم بن مرة. ولقد استحسن الرسول الكريم هذا السلوك؛ لأنه يمنع الظلم وينصر المظلومين ويعد من مفاخر العرب قبل الإسلام.
وفي غزوة بدر جعل الرسول الكريم دية الأسير من الكفار من ليس لهم فداء، فجعل فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة. كما إن بعض السنن النبوية هي سنن تقريرية بمعنى أنها كانت موجودة وأقرها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينتقدها.
أنهيتُ إجابتي فشكرني الطالب بأدب، ودوّن كل ما قلت، وارتسمت الفرحة على وجهه وهو يُغادر.