"جعجع" بلا طحين!

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

يعيش لبنان العزيز تفاصيل مسلسل سياسي تمتد جذوره إلى أيام الانتداب الفرنسي ولا يُراد لهذا المسلسل خاتمة حميدة تسُر لبنان وتُسعد اللبنانيين.

فمأساة لبنان الحقيقية تكمن في موقعه الجغرافي أولًا، وفي تركيبته السكانية ثانيًا، فلبنان وُجد في قلب الصراع العربي الصهيوني بلا رغبة منه أو مشورة، وبالتالي لابد أن يناله شيء من ارتدادات وشظايا هذا الصراع الوجودي الخطير، أضف إلى ذلك "موزاييك" التركيبة السكانية للبنان بطوائفه وأعراقه ومذاهبه، ثم أتت المذهبية السياسية لتشكل جرحًا غائرًا آخر يُضاف على جراح لبنان التاريخية.

لبنان ليس حالة خاصة في العالم ولكنه حالة تحت المجهر بفعل السياسة الدولية التي لا تسمح بزعزعة استقرار كيان العدو، إضافة إلى سياسة المحاصصة الطائفية التي عُرف بها لبنان منذ استقلاله وأصبحت من سماته وثوابته السياسية والاجتماعية التي لا تعرف التغيير أو التبديل، حيث أصبح كل حزب بما لديهم فرحون ولبنان آخر اهتمامهم وهمومهم. كل لبناني يعرف أن الطائفية هي من تحكم لبنان وأن الحكومة والبرلمان والرئاسة مجرد أدوات ولزوميات بروتوكولية في خدمة الطائفة ومؤشرات وجود دولة لا أكثر. استمعت ذات يوم إلى الحكيم- وكما يُسمى الطبيب عند العرب- سمير جعجع في حديث له إلى إحدى الأقنية الفضائية اللبنانية وما شدني في حديثه هو إجابته على سؤال بشأن خلافه مع تيار المقاومة؛ حيث قال: "هناك خلاف بين التيارات السياسية بلبنان على ماهية لبنان، فمنهم من يرى أنَّ لبنان كيان سياسي مستقل له مصالحه ولا مصلحة له أو طاقة في الانغماس في القضايا الكبرى المشتعلة من حوله وأنا منهم، ومنهم من يرى أن لبنان قُطر في كيان عربي، ولا يمكنه النأي بنفسه والعزلة عن ما يدور حوله من قضايا وأحداث دون أن يكون طرفًا فيها".

في تقديري الشخصي كمراقب عن بُعد أتفهم وجهة نظر التيار الأول، وأقر وأرجح وجهة نظر التيار الثاني، فالنتائج على الأرض اليوم، لو لم يكن لبنان حاضرًا وفاعلًا في قضايا الأمة المصيرية وعلى رأسها قضية فلسطين، لكان لبنان معبر قوافل أو استراحة محاربين ودولة بلا لون ولا طعم ولا رائحة.

سمير جعجع اليوم لم يعُد قائدًا للقوات اللبنانية فحسب؛ بل وكيلًا سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا للمشروع الأمريكي الصهيوني بلبنان، بعد فشل وانسحاب عدد من رموز هذا الدور، وهذه الوكالة مُكلفة الثمن وعوائدها موسمية ضحلة.

تيار المُقاومة- ممثلًا في حزب الله- ما زال اليد العليا بلبنان بين العديد من التيارات السياسية اللبنانية والتي سارعت لتكون اليد السُفلى وارتضت لنفسها هذا الدور المُهين حتى وإن كان الثمن لبنان بسيادته وتاريخه ومكوناته فقط المهم عندهم هو تحطيم قوة وسطوة حزب الله.

الغريب أن جعجع ونظرائه يحملون الخطاب السياسي والإعلامي الأمريكي الصهيوني تجاه المقاومة بوعي وبلا وعي، الأمر الذي يظهرهم كحلفاء أوفياء للأمريكان والغرب وضد لبنان برمته، بينما كانوا فيما مضى من الوقت يتوشحون بوشاح الوطنية ويتمسكون برؤيتهم للبنان الكيان الواحد الآمن المستقر وبالتالي لم تكن نواياهم بارزة على السطح كحالهم اليوم.

الأحداث الأخيرة بلبنان وإطلاق عناصر من القوات اللبنانية بقيادة جعجع النار على المتظاهرين السلميين، أظهرت أن جعجع تحول من ارتكاب المعاصي إلى مرحلة الجهر بالمعاصي، وهذه حدود وخطوط حمراء أوجبت على سماحة السيد حسن نصرالله أمين عام حزب الله أن يُوجه كلامًا ناريًا إلى جعجع بأن يقعد ويتأدب!! وحين يتحدث سماحة السيد حسن فلا اجتهاد مع النص. فمن حق كل لبناني أن يختلف مع هذا الطرح أو ذاك بحكم أن البشر الأحياء يتدافعون ولا يتساوون إلا في المقابر، ولكن ليس من حق أحد منهم أن يختلف على لبنان أو يختلف معه.

قبل اللقاء : "ما لي أسمع جعجعة ولا أرى طحنًا"، هو مثل عربي مشهور، تمّ انتقاؤه من التراث العربي الأصيل، والأصل الذي ضُرب فيه المثل هو الوفاء بالعهد، ولعل الوفاء بالوعد والعهد من أرقى الصفات التي يتحلى بها الإنسان السويّ المعطاء، وهي من الصفات التي تقرب المرء من الناس وتزيده احترامًا، بعكس الغدر والخيانة وعدم احترام الوعد.

وبالشكر تدوم النعم.