الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)
مع تصفُّح الصحافة الغريبة، والأمريكية خصوصا، عن وفاة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول، خلصتُ إلى أنَّ الغربَ تعلَّموا منا نحن العرب وطبقوا مقولتنا: "اذكروا محاسن موتاكم"، وأخيرا تحقَّق النصر وأصبح الأمريكان يقتدون بنا، وأضحوا أكثر عروبيةً من العرب أنفسهم؛ فهل يحق لي أن أمنِّي النفس بسقوط الإمبريالية الرأسمالية قريبا؟! لعلَّ وعسى.
للأسف، ولأول مرة أتفق مع الانتقادات اللاذعة التي كان يوجهها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي قال عن باول إنه "ارتكب كثيرًا من الأخطاء"، واستدرك الأمر بقوله: "على أية حال، فليرقد بسلام". انتقدَ ترامب ما وَصَفه بـ"النبرة التوافقية للسياسيين"، وقال ساخرا: "إنه يأمل أن ينال مديحًا مماثلًا عند وفاته".
كولن باول أو "الجندي الصالح"، الذي وصفه البعض بالرجل الرائد وهذا صحيح، فقد وُلِد بأول في حي "برونكس بنيويورك" لوالدين مهاجرين، وتخرج في "سيتي كوليج" بنيويورك، ثم تدرج في سلك العسكرية ليصبح في أثناء حرب الخليج الأولى رئيسًا لهيئة الأركان المشتركة في ظل إدارة جورج هيربرت بوش. كما صَار يُعرف كأول وزير خارجية أسود في إدارة جورج دبليو بوش.
ولكنَّ الإنجاز والريادة التي يُثمِّنها الأمريكان هي غبن وقهر وتهجير وقتل وتشريد للملايين من العراقيين، اختزلت كل تلك المشاعر رمية حذاء الصحفي العراقي منتظر الزيدي، الذي اشتهرَ برميه الحذاء على جورج بوش أثناء زيارته لبغداد 2008م.. حيث اشتهر الصحفي الزيدي بتغطية الكوارث الإنسانية التي خلَّفها الغزو الأمريكي للعراق. ومن المفارقات أنَّ باول -وكما يشير أصدقاؤه- هو أول من شعر بالندم على أهم قرار مؤثر في حياته، ولكن هل هو حقًّا ندم أم تجاهُل لكل المؤشرات والمعطيات وتجاهل لحدسه وانسياقه وراء مصلحة بلاده؟ فقد قدم خطابًا في 2003م من 76 دقيقة في مجلس الأمن الدولي، يُبرر فيه قضية إدارة بوش وغزو العراق، بل وأكد أن الزعيم العراقي صدام حسين يشرف على برنامج سري لإنتاج أسلحة الدمار الشامل. ولوَّح باول -أثناء كلمته- بصور التقطتها الأقمار الاصطناعية، وكان واثقا أنها صور لشاحنات وأنابيب ألمنيوم وغير ذلك من الأدوات المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل، بل وحمل في يده قارورة قال إنها تحتوي على غاز "أنثراكس" الجمرة الخبيثة". وكانت كل هذه الحقائق والتقارير التي قيل إنها محصلة عمل دؤوب من الاستخبارات الأمريكية، كلها في الحقيقة أكاذيب مزيفة.. وهي نفسها التي شرعتْ الذريعة لاجتياح العراق.
ومن المفارقات في حياة باول "أنه قاد القوات الأمريكية في فيتنام، وهو من أدار عملية طرد الجيش العراقي من الكويت في العام 1991م، كما اشتهر باول بأنه الجندي الصالح بل وأشهر جندي في أمريكا، فبعد نجاته من حرب فيتنام ساعد في إعادة بناء جيش أمريكا المحطم. وترسخ فيه إيمان بعد تجربته المريرة في فيتنام أنَّه يجب تجنُّب احتلال بلد أجنبي بأي ثمن، والذهاب للحرب فقط عندما يكون ذلك أمرا لا مفر منه تمامًا. وأصبح إيمانه عقيدة، كما عرف عنه واشتهر به؛ لذا فهو جندي صالح ذو رؤية. وقد كان هذا مربط فرس الإدارة الأمريكية بقيادة بوش الابن وتشيني ودونالد رامسفيلد، الاحتياج لـ"جندي صالح" ذائع الصيت ليشرع أبواب حرب جديدة؛ فالجندي الصالح هو الأداة المثالية لذلك.
وبعبارة أخرى، تمَّ استخدام باول.. لقد قام بوش وتشيني ودونالد رامسفيلد، الذي كان آنذاك وزيرًا للدفاع، إلى تجنيد باول -ومصداقيته الهائلة- لتقديم الحجج الواهية والخاطئة في نهاية المطاف، للحرب. كما روى باول لأحد مساعديه -وفقا لـ"روبرت دريبر" مؤلف كتاب "لبدء الحرب: كيف أدخلت إدارة بوش أمريكا إلى العراق"- قال له تشيني: "أنت الرجل الأكثر شعبية في أمريكا، افعل شيئا بهذه الشعبية". وهذا بالفعل ما فعلة باول، الجندي الصالح، رغم الشكوك التي ساورته حول غزو العراق، لكنه آثر أن يكون صالحاً إلى النهاية، ويرمي عرض الحائط بعقيدته الجديدة والتي عكف زمنا بعد فيتنام يروِّج لها.
وفي أهم القرارات المصيرية في حياته المهنية، اختار باول أن يظل كما كان يطمح دائمًا لأن يكون "الجندي الصالح".