من علمني حرفًا صرت له...

 

خالد بن سعد الشنفري

 

"من علمني حرفًا صرت له عبدًا".. اشتهرت هذه المقولة في عالمنا العربي وأصبحت مُتواتره منذ مئات السنين، وهي تقال غالباً لطلبة العلم والتلاميذ لحثهم على احترام وتوقير المعلم حتى أن البعض أصبح يحسبها لأول وهلة حديثا شريفا.

المسلم لا يرضى أن يكون عبدًا بمعنى العبودية لغير الله، حتى لو كان هذا المخلوق نبيًا أو رسولًا، لكن هذا لا يُقلل من أهمية المعلم من الناحية الدينية والاجتماعية، وتواتر المقولة أعلاه بيننا إلى اليوم خير دليل على ذلك.

المقصود بالعبودية هنا الطاعة، فما من هدية يمنحها لك إنِّسان في الدنيا وتصبح لصيقة بشخصك وحياتك طوال العمر أعظم من العلم، وبالتالي وجب عليك تقديم الطاعة والاحترام والتبجيل للمعلم الذي أهداك علمه، فالعلم ميراث الأنبياء والعلماء ورثته، والمعلمون هم أرفع الناس منزلة في الدنيا قبل الآخرة، وقد استعاذ الرسول صلى الله عليه وسلم من زمن لا يُحترم فيه المُعلم، ودعا الله أن لا يدركه مثل هذا الزمان. لا تفتأ تزورني أحيانًا أطياف ذكريات الطفولة مع أول معلم تلقيتُ العلم على يديه في حياتي في النصف الأخير من ستينيات القرن المنصرم، في مدرسة المعلم الواحد أيامها، رغم مرور أكثر من نصف قرن من الزمن على هذه الذكريات، إنِّه معلمي الأستاذ الجليل السيد علي بن طاهر مقيبل طيب الله ثراه.

من أقدار الحافة التي كان يطلق عليها آنذاك "شبديت ثيريت"، وتعني باللغة الشحرية "الكبد الرطبة" أن تحظى بثلاثة أساتذة معلمين أجلّاء؛ لكل منهم مدرسة خاصة به، إضافة إلى بعض المُعلمات الفاضلات لتعليم الإناث، كما حظيت المنطقة أيضًا بثلاثة حلوانيين أو صانعي حلوى عمانية، لكل منهم معمله الخاص به، وذلك استثناء من أي منطقة في ظفار. كان لكل منهم مدرسته الخاصة به في بيته، فإضافة إلى أستاذي علي مقيبل الأقرب جيرة لبيتنا، كانت هناك أيضًا مدرسة المرحوم الشيخ الأستاذ عامر بن أحمد بن بخيت الشنفري شرق الحافة، والأستاذ أحمد بن سعيد باعنقود- أطال الله عمره- في جنوبها. ولم تقتصر مدرسة الأستاذ علي على أبناء الحافة فقط، فقد كان يتوافد عليها طلبة من الأطراف وصولًا إلى منطقة الدهاريز شرقًا، والتي كانت تفصلها عنّا مسافة ليست بالقريبة، نظرًا لمواصلات ذلك الزمن، والتي تنحصر في المشي على الأقدام أو على دابة تلك المرحلة (الحمار)، الذي كان منظرها حسبما اتذكره تحت شجرة البيذان العملاقة أمام بيت الأستاذ العامر أشبه بإسطبل طوال فترة الثلاث ساعات التي يدرسنا فيها في اليوم.

كان الأستاذ علي معلمًا رسميًا في الفترة الصباحية في المدرسة السعيدية النظامية الوحيدة في صلالة وظفار كلها، والتي تشتهر بانضباطية في التَّعامل مع طلابها أشبه بالعسكرية، وكان زي طلابها الأبيض المميز دشداسة وكوفية، وزي معلميها الأنيق الدشداشة البيضاء والعمامة المميزة والجاكيت (الكوت) الأسود، وجميعهم لديهم تراخيص استثنائية من السُّلطان في استعمال الدراجة الهوائية (السيكل) في التنقل، لكنه كان يتحمل عبثية طفولتنا غير المنضبطة وأصوات حميرنا المزعجة، ويخصص لنا ثلاث ساعات كل يوم من بعد الظهر إلى ما بعد العصر.

كنَّا ننحشر مقرفصين على أرضية "المروح" البهو الأمامي بطول ثلاث (محايل) غرف الدور الثاني لبيتهم، وكان لا يتوانى مع كل ذلك من التصحيح لنا فردًا فردًا، كل في دفتره الخاص، بخطه الرائع الجميل، في دروس اللغة العربية والحساب، ويمر علينا كذلك ونحن نقرأ ونسمع الآيات والسور القرآنية جماعةً أو على انفراد، فقد كان التدريس مقتصرًا على المصحف الشريف واللغة العربية والحساب فقط.

ما زلتُ أتذكرُ مُعاناتي مع سورة "المسد" في البداية وذرفي للدموع والعرق أمام قراءة هذه السورة وتداخل كلمات تبت.. و.. تب، وكأنها وتد غُرس بين عينيَّ، وكأن أبولهب ما زال وراءنا في الإعاقة، حتى بعد مُضي 14 قرنًا من الزمن، لكنني تغلبتُ عليه في النهاية بمعيةِ حب وعطف أستاذي ومعلمي المربّي الوالد، عندما تمَّ قبولنا بالصف الأول بالمدرسة السعيدية في 1970م تم تقفزينا في السنة الدراسية التي تلتها 1971م إلى الصفوف الرابع والثالث لمستوانا التحصيلي المُمتاز سابقًا في مدرسة أستاذنا.

أصبحتْ هذه الذكريات الجميلة تؤخز النفس في الآونة الأخيرة، ونحن نرى حال الكثيرِ من مُعلمينا اليوم الذين اتخذوا من التدريس وظيفة وهي رسالة قبل أن تكون وظيفة.

علينا جميعاً اليوم أن نعمل على تغيير هذا المسار قبل أن يستفحل، بدءًا من وزارة التربية والتعليم مرورًا بالمعلمين أنفسهم، وصولًا لمجتمعنا بكامله؛ لنُعيد مسار عملية التعليم إلى مساره الصحيح.

الوزارة عليها ألا تهضم المعلم حقه؛ بل تكرمه ليتفرغ لرسالته، والمعلم عليه أن يعي دوره في المجتمع، ليكون مُعلمًا يقرأ ويثقّف ويطوّر من نفسه، ومن تحصيله العلمي باستمرار؛ لينقله إلى تلاميذه، فكيف يقنع معلم تلميذه بالقراءة وحبها وهو لا يقرأ؟! كما إن المجتمع عليه أن يعطي المعلم حقه وقدره من الاحترام والتبجيل ليزيد عطاءه ويتواصل.

قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا · كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا

التعليم أساس حياتنا المعاشة وكل مستقبلنا القادم، وإذا أُريد إصلاح ناجع لأي بناءٍ لابُد من إصلاح وتمتين الأساس قبل أي شيء آخر، ولا أساس لمجتمع دون عِلمٍ.