صناعة التفاهة.. وثَوْر الرأسمالية الهائج!

 

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

طوال السنوات التي عشتها على هذا الكوكب، كُنت دائمًا على يقين بأن حالات الانتحار التي تكون وسيلتها آلة حادة أو رصاصة تستقر في مواضع الموت بالجسد، هي حالات يعيش أصحابها اختلالًا نفسيًّا عميقًا، إذ لا يُمكن لعقل أن يستوعب أن يستل أحدهم سلاحًا ليقطع حبل الحياة اعتباطًا.. ولكن، ماذا لو تم إسقاط هذه المعطيات على الاقتصاد؟!!

بالتأكيد الأمر يختلف، سواءً من حيث قوة وقدرة الدولة على التفكير أساسًا بالإقدام على هذه الخطوة، أو من حيث المقدِّمات التي قد تدفع هذه الدولة إما لأن تطلق رصاصة رحمة أو رصاصة تمكين الفساد!! والبون بكل التأكيد شاسع وكبير، لا تبديه إلا تفاصيل ما بين السطور.

الأمر كان أشبه باللعبة الروسية الشهيرة، التي يُمسك فيها أحدهم بمسدسٍ محشوٍّ طلقة واحدة، ويصوب الفوهة باتجاه الآخر، تحذيرًا، تخويفًا، سمِّها ما شئت.. اللعبة هذه المرة تُلعب على أرض التنين الصيني، الذي أطلق من قبل نداءات تحذير عدَّة، قبل أن يُقرِّر بشكل باتٍّ تقليص استخدام تطبيق TikTok للأطفال دون 14 سنة إلى 40 دقيقة فقط.

إسقاطات ما سبق يُمكن فهمها من خلال معرفة أنَّ TikTok صناعة صينية ويعرف لديهم بـDouyin، ومن ثمَّ قررت الصين كسر قاعدة "المنتج الوطني اولاً"، إذ يبدو ضربًا من اللامعقول أن تبتكر منتجًا ويكتسح العالم، ثم تأتي أنت لتسن تشريعات وتضع القوانين المحجِّمة لاستخدامه. ولكن كما اتفقنا الأمور لا تقاس بظواهرها وإنما بالمقدِّمات التي آلت إليها، وفي رأيي أنَّ الصين أدركت حقيقة التفاهة التي تحولت إلى صناعة ستسحق أجيالها القادمة.. أو لنقل إدمان "صناعة التفاهة".

وأستذكر هنا قولًا للفيلسوف الكندي آلان دونو عن صناعة التفاهة: "هي عبارة عن النظام الاجتماعي الذي تسيطر فيه طبقة من التافهين على جميع مناحي الحياة، وبموجبه تتم مكافأة الرداءة والتفاهة، عِوَضًا عن العمل الجاد والملتزم". فمع تضخُّم النزعة المادية والاستهلاكية التي أفرزها النظام الرأسمالي، تم تسليع الإنسان و"تشييئه"، فأصبح سلعة استهلاكية تنتج مقاطع لمدة 15 دقيقة، لتنتشر عالميًّا وتحصد الثناء والإعجابات، وتهبط عليه أطنان الأموال.. بمحتوى صفر، أو بمعنى أدق "صفر محتوى".

محتويات تافهة غيَّرت منحنيات وأطرًا جوهرية في العمل والنظام الأكاديمي والعملي بل والحياتي، وأحالت البشر إلى مجرد آلات للمسخرة من أجل تحقيق فائض في الإنتاج اللازم لاستمرار المنظومة الاقتصادية، فانتقل الإنسان من "الحِرفة" التي تدفعه بشغف للإبداع والابتكار، بل وتمنحُه البركة، إلى مجرد مسخ تافه يسعى فقط لجمع المال وتأمن بقائه في صالح النمو الرأسمالي.

لقد سيطرتْ التفاهة بأشكالها المتعددة على مفاصل حياتنا اليومية، وأنتجت لنا "شبه خبراء" بدل المثقفين؛ فبدلًا من أن تضطلع الجامعات بدورها التنويري وتفرز مثقفين قادرين على التحليل والنقد البناء، أفرزت "أشباه خبراء" يطلون علينا كل يوم عبر الشاشات بأفكار أقل ما توصف به أنها هشَّة؛ تتمحور حول شرعنة "الإوليغارشية الاقتصادية".

و"الإوليغاريشة" هي حكم أو هيمنة الأقليات، وهي شكل من أشكال الحكم؛ بحيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية.. بينما يعيثُ هؤلاء الأشباه فسادًا بتسطيح الرأي العام (جعله سطحيًّا).

لقد انسحب التفكير العميق والتأملي في "نظام التفاهة"؛ مما أفسح المجال لتوغل النزعة التقنية ذات الطابع التبسيطي والتنميطي؛ والتي أسهمت في تخريج الجامعات سنويًّا لمن يُعرفون بـ"الأمي الثانوي"، وهو الشخص المتمكن من المعارف التقنية والعلمية، لكنه فارغ فكريًّا وأيدولوجيًّا، وعاجز عن التعاطي مع الإشكالات الفلسفية والنظرية ذات العمق والكثافة.

ومن التعليم إلى الفنون والثقافة، قلب العالم النابض والمفعم بصناعة التفاهة، فقد سيطر أصحابُ الذوقِ الهابط، وأضحتْ الأعمالُ الفنيَّة والثقافية الرَّزينة عُملة نادرة، تمامًا، ومن الأمثلة الحالية على ذلك شبكة "نيتفلكس" الساعية لاحتكار وإنتاج وصناعة الفن الراقي في كل الدول المنتجة له، سواء العربية والغربية والآسيوية، بينما يتم تسخير بقية الطاقات الإنتاجية لتمرير الرسائل وإشباع الاحتياجات الضرورية لاستمرار عمل النظام الرأسمالي في الهيمنة على السوق الاقتصادية والمنتجات الفنية، في ظل ملكية أصحاب رؤوس الأموال لوسائل الإعلام واستحواذهم على سوق الإعلانات كذلك.

وفي ظل "الإوليغارشية" أو "البلوتوقراطية" (حكم الأثرياء)، وتشجيعها وإنتاجها لصناعة التفاهة يتوجب على المجتمع انتهاج مبدأ "القطيعة الجمعية"؛ فليس لنا قُدرة التنين الصيني على مُناطحة ثور الرأسمالية الهائج!