غزة: اغتيال الذاكرة ومصادرة الضمير

الطليعة الشحرية

أصبح القانون الدولي مجرّد ورقةٍ تُمزّقها مصالح الكبار، تقف الأمم المتحدة والدول العظمى على أطلال غزة بصمتٍ فاضح، لا يشبه الحياد، بل يشبه التواطؤ. بين ركام المستشفيات وجثث المسعفين والصحفيين، تُقتل العدالة قبل الضحايا، وتُدفن الحقيقة تحت أنقاض المساومات السياسية، من مجلس الأمن الذي تُحاصره فيتوهات أمريكا، إلى عواصم الغرب التي تُصدّر القيم وتستورد صمتًا مريبًا حين تُستهدف الكوادر الطبية وتُغتال الكاميرا، تتحول الجرائم إلى "حقوق مشروعة"، وتُمنح إسرائيل حصانة بدم الشهداء.

إنها شراكة دولية في دفن الحقيقة، حيث لا يُحاسب القاتل، بل يُكافأ، ويُمنع الجريح من حتى أن يشهد في غزة، لا تسقط فقط القنابل، بل يسقط معها النظام العالمي الذي ادّعى يومًا أنه حارس للإنسانية. في حرب تتجاوز القذائف والدبابات، يمضي الجيش الإسرائيلي في عدوانه على قطاع غزة مستهدفًا شيئًا أبعد من البشر: الحقيقة، فالقتلى ليسوا فقط مدنيين، بل منقذون يوثقون الجريمة، وصحفيون يحملون الكاميرا لا البندقية، وأطباء يقاتلون بالضماد لا بالسلاح. في هذه الحرب، هناك من يُقتل مرتين: مرة تحت الركام، ومرة بصمت العالم، يُدفن الشهود تحت الأنقاض على مَرْأى ومسمع مِن العالم هكذا تُقتل الحقيقة في غزة؟

سنرصد عبر شهادات ميدانية وأدلة موثقة، كيف تمضي إسرائيل، بغطاء سياسي دولي، في سياسة ممنهجة لاستهداف المسعفين والصحفيين، ويكشف التسلسل الكامل لتفكيك أي مسار محتمل نحو محاسبة حقيقية.

 

على خط النار لا فرق بين المسعف والجندي

 

 سيارات الإسعاف أهداف معلّبة وجاهزة للإعدام: في 3 نوفمبر 2023م، استُهدفت سيارة إسعاف تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني أمام مستشفى الشفاء، وقُتل فيها المسعف أحمد الكحلوت، ظهر في فيديو وهو يُخرج طفلة من تحت الأنقاض. في الفيديو، كان يرتدي السترة الطبية ويصرخ: "كلهم أطفال!". بعد 12 ساعة، كانت جثته محمولة في ذات السيارة التي أنقذ بها غيره.

بحسب منظمة الصحة العالمية، تم استهداف أكثر من 115 سيارة إسعاف، وقُتل أكثر من 300 من الكوادر الطبية حتى نهاية يونيو2024،"نُعامل كأهداف مشروعة": أي تحرك لنا قد يعني موتًا فوريًا"، يقول عمرو صيام، مسعف ميداني نجا من قصف مباشر في حي الزيتون.

 

 

قتل الكاميرا واغتيال الشهادة: الصحفيون في مرمى النار

كأن الحقيقة صارت جريمة حرب بكل معنى الكلمة. فمنذ بدء العدوان على غزة في 7 أكتوبر2023، قُتل أكثر من 150 صحفيًا فلسطينيًا، وفقًا لإحصائية موثقة نشرتها نقابة الصحفيين الفلسطينيين ومنظمة مراسلون بلا حدود (RSF) حتى نهاية يونيو2024، ما يجعل العدوان الإسرائيلي على غزة الأكثر دموية للصحفيين في العالم في السنوات الأخيرة.

من بين هؤلاء، الصحفي محمد أبو هربيد، مراسل ميداني يعمل بشكل مستقل، استُهدف منزله في حي التفاح شرق غزة بصاروخ في نوفمبر2023، بعد يومين فقط من نشره تحقيقًا مصورًا عن مجزرة جباليا. زوجته، الصحفية نسرين سكيك، تقول: "تلقى تهديدًا مبطنًا عبر رسالة على حسابه، قيل له فيها: 'عد للوراء'، لم يكن يملك إلا كاميرته، وكان يحفر الحقيقة من تحت الركام."

وفي تقريرها الصادر في مايو 2024، أكدت منظمة مراسلون بلا حدود أن "غالبية الصحفيين قُتلوا بعد تعقب تحركاتهم عبر طائرات استطلاع، رغم ارتدائهم شارات الصحافة، ما يشير إلى استهداف متعمّد، وليس عرضيًا".

حتى الصحفيين الدوليين لم ينجوا من نيران القصف؛ إذ تم قصف مكاتب قناة الجزيرة في غزة مرتين، في 13 أكتوبر و4 نوفمبر2023، رغم إبلاغ إحداثيات الموقع مسبقًا للجهات الدولية كونه مرفقًا إعلاميًا محميًا بموجب القانون الدولي. كما رصدت لجنة حماية الصحفيين (CPJ) في تقاريرها، منع طواقم إعلامية أجنبية من دخول قطاع غزة، في خرق واضح لحرية التغطية واستقلالية الإعلام.

وتضيف المنظمة في تقرير خاص: "القيود المفروضة، إلى جانب الاستهداف المباشر، تهدف إلى حجب الرواية الفلسطينية، ومنع وصول الصورة الحقيقية إلى العالم."

 

حين يتحول المستشفى إلى هدف عسكري

قُصف المنقذون والناجون والضمير العالمي غائب، في 11 ديسمبر2024، قصفت إسرائيل بشكل مباشر قسم الطوارئ في مستشفى الأقصى بمدينة دير البلح، ما أدى إلى استشهاد17 من الطواقم الطبية بين أطباء وممرضين، وإصابة العشرات من المرضى والنازحين. وقد وثّقت منظمة أوتشا (مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة) في تقريرها الأسبوعي أن القصف وقع "رغم معرفة الجيش الإسرائيلي المسبقة بوظيفة المستشفى كمرفق طبي نشط ومأهول". بعد يومين فقط، في 13 ديسمبر، استُهدفت نقطة إسعاف ميدانية شرق خان يونس أثناء إجلاء الجرحى من قصف سابق، ما أدى إلى مقتل 4 مسعفين و3 جرحى كانوا يُنقلون داخل سيارة الإسعاف.

تقول د. هالة المصري، من المستشفى الأوروبي في رفح: "نعمل بلا ماء، بلا كهرباء، بلا أدوية، وتحت التهديد. المسعف الذي ينقذ طفلًا يُقتل، والجريح الذي ينجو يُقصف مجددًا. حتى المستشفى لم يعد مكانًا آمنًا… إنه هدف مؤجل."

ووفقًا لتقرير منظمة الصحة العالمية الصادر نهاية ديسمبر2024، تم استهداف أكثر من 310 منشأة طبية منذ بدء الحرب، بينها مستشفيات ميدانية، سيارات إسعاف، ومراكز طوارئ، في انتهاك واضح لاتفاقيات جنيف.

 

 التسلسل المنهجي للإفلات من العقاب

يوسّع الجيش الإسرائيلي بنك الأهداف ليشمل المسعفين وكل ما يتحرك، بما فيه سيارات الإسعاف والمستشفيات. وثائق استخباراتية نُشرت في ديسمبر2023 تؤكد أن الجيش يُدرج "منشآت مدنية يُعتقد أنها تُستخدم لوجستيًا من قبل حماس" ضمن بنك الأهداف، دون أدلة ميدانية مباشرة. هذا يسمح باستهداف أي شيء مدني بمجرد الشك وهو ما يخالف كل المعايير القانونية الدولية".

 يستخدم الكيان المحتل تسلل منهجي للإفلات من العقاب مُتيقنين بإن التنصل من الجريمة لا يبدأ من الطائرات، بل من المنابر السياسية، حيث يُعاد تعريف الضحية كـ "درع بشري"، ويُمنح القاتل شرعية القتل تحت غطاء "الأمن القومي " متخذين من السياسية كغطاء.

الغطاء السياسي: تحويل المسعف إلى متهم

القادة الإسرائيليون، وعلى رأسهم نتنياهو ووزير الدفاع، صرحوا مرارًا بأن "حماس تستخدم سيارات الإسعاف والمستشفيات كدروع بشرية". هذا الخطاب يبرر الاستهداف المسبق، ويمنح الرأي العام الدولي سردية مريحة لتجاهل الجرائم. وإذا كانت التصريحات السياسية تُشرعن القتل، فإن القضاء العسكري يتولى مهمة تغطيته قانونيًا بمنح القتلة براءة مسبقة.

 وما إن تُشرعن التصريحات السياسية الجريمة، حتى يتكفّل القضاء العسكري بإغلاق ملفها تحت شعار "التحقيق الداخلي"، الذي ينتهي دائمًا بنتيجة واحدة: لا أحد يُدان، حتى لو قُصفت المستشفيات وقُتل الصحفيون. ويسرع الكيان المحتل الى التستر على جرائم جيشه الممنهجة باستخدام بالترويج للقضاء العسكري المحايد والشريف.

القضاء العسكري الإسرائيلي: براءة مسبقة

في كل حادثة استهداف، تُفتح "تحقيقات داخلية"، تنتهي غالبًا دون توجيه أي تهمة. منذ عام 2000، لم يُحاكم جندي إسرائيلي واحد بتهمة قتل طاقم طبي أو صحفي في غزة. تقول المحامية الحقوقية ليئة تسيميل الإسرائيلية -اشتهرت بدفاعها عن الفلسطينيين امام المحاكم الإسرائيلية-: "هذه تحقيقات لحماية القاتل، لا لمعرفة الحقيقة"،. وإذا كان الداخل الإسرائيلي يبرّئ القاتل، فإن المجتمع الدولي يتولّى حمايته، عبر أدوات الضغط والفيتو، ليمنع أي مسار للمحاسبة في المحاكم الدولية أو عبر مجلس الأمن.

 الحصانة الدولية: فيتو ضد العدالة

مجلس الأمن الدولي شلّته الولايات المتحدة، عبر استخدام الفيتو أكثر من 9 مرات لمنع أي قرار يُدين أو يحقق في جرائم الحرب. المحكمة الجنائية الدولية جُمّد تحقيقها في فلسطين بعد ضغوط أمريكية وأوروبية بحجة "الاختصاص"، رغم أن فلسطين عضو في نظام روما.

 "العالم لا يريد رؤية الحقيقة، لأن ذلك سيُلزمه باتخاذ موقف… فاختار إغماض عينيه"، هذا ما صرح به ريتشارد فولك، المقرر الأممي السابق لحقوق الإنسان، ولكي تكتمل دائرة التغطية، تُستهدف الرواية الفلسطينية ذاتها، لا بالسلاح فقط، بل بتشويه صورتها إعلاميًا، وتجريم كل صوت يُعبّر عنها أو يُنقلها إلى العالم

تشويه الإعلام الفلسطيني وتكميم الصوت

إسرائيل تعمل عبر منصات ومراكز أبحاث لتشويه الإعلام الفلسطيني، واتهام الصحفيين بـ "التحريض" أو "الانتماء لفصائل مسلحة"، لتبرير استهدافهم أمام الرأي العام الغربي. منصات مثل CAMERA وMEMRI تضغط لحذف تقارير فلسطينية أو منع ظهورها في الإعلام الأمريكي والأوروبي.

 لكن الحصار لا يقتصر على الداخل الفلسطيني، بل يطارد كل من يحاول كسر جدار الصمت. التضامن نفسه بات جريمة، والحرية الشخصية تُختبر عند أول موقف ضد العدوان.

تجريم التضامن... وملاحقة الصوت الحر

لم تكتفِ المنظومة الدولية بالصمت أمام المجازر، بل تحوّلت إلى أداة لقمع كل من يرفع صوته بالحق. فالتضامن مع غزة بات تهمة، والمطالبة بوقف الحرب جريمة أخلاقية تُحاكم في ساحات الإعلام والسياسة. طُرد طلاب من جامعاتهم، فُصل موظفون، أُلغيت عقود فنانين ومشاهير فقط لأنهم أعلنوا دعمهم لغزة أو طالبوا بوقف العدوان.

في العواصم الغربية، لم تُمنع فقط المسيرات، بل شُوهت، ووصِف المشاركون فيها بأنهم "معادون للسامية" أو "أنصار للإرهاب". الإعلاميون الذين تجرأوا على الانحياز للإنسان، وُضعوا في قوائم سوداء، والفنانون الذين غنّوا للحرية، كُتمت أصواتهم بعقود ملغاة وحملات تحريض منظمة. إنها محاولة ممنهجة لعزل غزة، لا جغرافيًا فقط، بل أخلاقيًا، وإجبار العالم على النظر للدم المسفوك كـ "تفصيل أمني" لا يستحق التعاطف. إنهم لا يريدون فقط تدمير غزة، بل يريدون خنق أي قلب ينبض من أجلها.

غزة... حيث تُدفن الحقيقة وتُمنح الجريمة تصريحًا دوليًا

ما يجري في غزة ليس فقط حربًا على شعبٍ أعزل، بل حرب شاملة على الحقيقة، على الشهود، على من يروي ومن يُنقذ ومن يتضامن. يُقتل الصحفي لأنه يصوّر، ويُقصف المسعف لأنه يُنقذ، ويُعتقل المتظاهر لأنه صرخ ضد القتل. تُغتال العدسة، وتُدفن الضمادة، ويُلاحق كل من قال "لا" في وجه آلة الإبادة.

العالم لم يكتفِ بالصمت، بل شارك في الجريمة بصيغ متعددة: فيتو يحمي القاتل، منصات تشوّه الضحية، أنظمة تجرّم التضامن، ومؤسسات تزعم الحياد وهي تغمض عينيها عن دماء الأطفال. إنها جريمة متعددة الوجوه، تبدأ من صاروخ يسقط على مستشفى، ولا تنتهي عند فصل طالب تضامن أو فنان غنّى لفلسطين السكوت لم يعد حيادًا... بل انحياز للقاتل.

 والحياد في حضرة المجازر خيانة، فهل يكتب التاريخ مستقبلًا أن الحقيقة قُتلت في غزة...ووقف العالم متفرجًا؟ كممت العدالة في غزة وقتل الشهود لدفن الحقيقة قبور الشهداء وكأنها صندوق أسود يضم الحقيقة.

في غزة، لا تُقصف الأبنية وحدها، بل تُقصف الشهادات، العدالة مخنوقة، الحقيقة مدفونة، والشهود في القبور. لكن إن ظن القاتل أن دفنهم يُسكت صوتهم، فهو لا يعرف أن الدم لا يصمت.

فلعنة الدماء ستكون صرخة توقظ ضميرًا نام طويلًا؟
"لعدالة لا تموت، لكنها تُدفن مؤقتًا تحت الركام، كما تُدفن جثث الشهود. لكنها ستنهض، لأن ذاكرة الدم لا تمحى، ولأن صوت الحقيقة لا يُقصف إلى الأبد.

 

الأكثر قراءة