الميراث (2)

 

فاطمة إسماعيل اليمانية

 

أمّا عفراء، فمزّقت بطاقة الدرجات، وقالت لنا:

  •  لا تهمني، سأتزوج!

واختفت بعد ظهور النتيجة، ولم نسمع إلّا أنّ عفراء، ستتزوج!

حاولنا الاتّصال بها، ولم تردّ على الاتصالات، وأحيانا تردّ والدتها، وتقول لنا:

  • عفراء مشغولة، ستعاود الاتّصال لاحقا!

لكنّها لا تتصل.. ولا تحاول.. ولا تعاود الاتّصال.. ولا لاحقا.. ولا هم يحزنون!

وعندما يأسنا منّها، وأسقطنا اسمها من قائمة المجموعة، تفاجأنا بخبر زفافها، ولم نكن نرغب في الحضور، إلّا أنّها اتّصلت بنا واحدة.. واحدة.. وطلبت منّا مشاركتها فرحة الزفاف!

كنّا نتخيلها بالفستان الأبيض، ونتخيل ملامح العريس، وكيف سيكون شكله؟

وهل يشبهها؟! أو هو أجمل منّها!

خيالات، وتكهنات، ظلّت حبيسة أدمغتنا لمدّة أسبوع كامل..

 حتّى أتى يوم الزفاف، حيث نصبت خيمة ملكية في باحة منزل عائلة عفراء..

 كانت واسعة، فسيحة، فيها الكثير من الطاولات والكراسي، والسّجاد الرّاقي، وفي الوسط نصبت كوشة العروسين، ووضع في المنتصف كرسي مذهب على الطراز الكلاسيكي، وخلفهما تتدلى الزهور البيضاء، والأعمدة المنقوشة بالزخارف الذهبية.

جلسنا على أقرب طاولة حتّى نتمكن من رؤية العروس عن قرب، وتناولنا العشاء الذي تميز عن عشاء الأعراس في ذلك الزمن بتنوع الأطباق، والأصناف.

ثم انتظرنا عشر دقائق أخرى قبل أن تدخل العروس على موسيقى الزفاف، فاتّجهت أبصارنا لباب الخيمة..

أطلّت عفراء وهي ترتدي الفستان الأبيض، بخطى بطيئة، كأنّها أميرة من أميرات القصور، بجمالها، ونعومة ملامحها، وعيونها الخضراء الواسعة، وشعرها الأسود الطويل المُسْدَل، مرتدية تاجا من الكريستال اللّامع، وطرحة بيضاء طويلة مطرّزة بالدّانتيل، ومزيّنة بحبات اللؤلؤ الصغيرة المتناثرة.

وبعد أن جلَسَت على الكرسي.. نظرت إلينا، وابتسمت لنا.. فلّوحنا لها بأيدينا، وأرسلنا لها قبلات من بعيد..

ثم وضعت أغاني الأعراس، وصعدت أمّها وشقيقتها للرّقص على الكوشة..

كانت أمّها ترقص بضمير، ترقص كأنّها أقسَمت على أنْ ترقص للأبد!

ولأول مرّة أرى سيدة أربعينية ترقص بهذا الحماس، رغم أنّني حضرتُ العديد من الأعراس، ورأيت مظاهر التعبير عن الفرح، إلّا أنّ أمَّ عفراء كانت ترقص لتغيظ الأخريات، خاصّة زوجات أشقاء زوجها، وأقارب زوجها الذين لم يشجعوها على تزويج عفراء من رجل كبير.. وهي ما زالت صغيرة لم تتجاوز الثامنة عشر بعد.

 لذلك رَقَصَت أمام طاولتهن لمدّة خمس دقائق، حتّى سمعت بأنّ العريس قادم، فنزعت الشال من خصرها، ووضعته على رأسها!

وعندما أقبل العريس..

 ذهلنا من العريس ومن هيئة العريس!

كان رجلا كبيرا في السنّ، يبدو كأنّه في السّتين من عمره!

أبيض البشرة، بلحية طويلة بيضاء، يرتدي عمامة بيضاء أيضًا، وخنجرا يوشك أن ينزلق من على كرشه!

وبعد جلوسه على الكوشة، عمّ المكان صمت مطبق.. صمت المفاجأة.. والدهشة.. والذهول!

ولم نستطع تبادل التعليقات فيما بيننا.. خاصّة بعد أن جلس بالقرب منّها، وكانت تنظر إلى زوجها، وإلينا!

خرجنا من الخيمة تباعا..

ولم نتحدث عن عفراء، ولا عن عريس عفراء، إلّا يوم السبت في فسحة المدرسة، لكنّنا لم نعرف السبب الحقيقي الّذي جعل عفراء توافق على الزواج من رجل في عمرّ جدّها!

كان فارق العمر بينهما اثنين وأربعين عاما تقريبا!

وبعد مرور شهر، سمعت خالتي تخبر أمّي عن سبب زواج عفراء كما انتشر في الحارة على لسان زوجة عمّ عفراء.

 وعَرِفنا أنّ السبب الحقيقي، هو أنّ عبد اللطيف اشترى بيتا كتبه باسم عفراء، ودفع عشرين ألف ريال عُماني مهرا لها، عدا السيارة الفارهة، والهدايا، والذّهب.

وكما يقولون:

  •  إذا عُرِف السبب.. بطل العجب!

ولم تكن عفراء الحدث الوحيد الّذي أثار عجبنا.. فالأيام جادت علينا جميعا، بالشيء العجيب، والشيء الأعجب من العجب نفسه!

ومن الأشياء العجيبة، أن ألتقي صدفة بعفراء في أحد المستشفيات الخاصّة..

 في البداية لم أعرفها، تغير شكلها كثيرا.. ازداد وزنها، وشحبت بشرتها، وانطفأ بريق عينيها الخضراوين.. وكل ما أراه سيدة عجوز متهالكة!

جلست قربي.. وقالت:

  • عرفتني!
  • للأسف..
  • عفراء!

وعانقتها فرحا:

  • تغيرتِ كثيرا!
  • حتّى أنتِ..
  • كيف عرفتني إذا؟!
  •  صوتك!
  • احم.. احم!
  •  مشيتك.. العسكرية!
  • شكرا.. شكرا!
  •  في الحقيقة لم تتغيري كثيرا.. لأنّك سمينة منذ أيام الدراسة!
  • هكذا أفضل، حتّى لا أتعبكم عند البحث عنّي!

ضحكت عفراء، وأخذت تسرد لي قصتها، وكيف تزوجت عبد اللطيف بسبب طمع أمّها في ثروته، وكانت تقول لها:

  • تزوجيه يا عفراء، رجل كبير.. ومريض..  سيموت قريبا، وسترثينه!

ومنذ عام 1994 وأنا وأمّي وأبي ننتظر موت عبداللّطيف، لكنّه لم يمت..

ومات أبي الّذي يصغره بعشرين عاما، وعبداللّطيف ما زال على قيد الحياة!

والأدهى من ذلك والأمر، أنّني لم أنجب منه..

بل مرّ بضائقة مالية باع بسببها أملاكه، والبيت الّذي اشتراه لي باسمي، والسيّارة، والذهب الّذي أحضره لي قبل الزفاف، وأجبرني على السكن مع زوجته الّتي لم تترك فلما من أفلام الضرائر المُرعبة إلّا وقامت بتطبيقه معي!

وها أنا الآن، كما تشاهدين، تقدم بي العمر.. بلا وظيفة.. ولا شهادة.. ولا مال خاص.. ولا أبناء.

  •  لماذا لم تنجبي؟
  • كان في السّتين من عمره عندما تزوجت به، وعندما تأخر الحمل طلبت منه الذهاب لأحد المستشفيات للكشف، لكّنه رفض رفضا قاطعا، وقال بأنّه لا يريد مزيدا من الأبناء!

تحدثتُ معها لمدة ساعة كاملة، وصُدِمتُ عندما عرفتُ أنّها مصابة بمرض عضال.. وتتلقى العلاج على نفقة شقيقتها عذراء الّتي أصبحت موظفة في إحدى الدوائر الحكومية.

وعندما نادت الممرضة اسمها.. تبادلنا أرقام الهواتف.. وخرجتُ من المستشفى بعد دخولها غرفة الطبيبة.

تواصلت مع عفراء مدّة من الزمن، ثم بدأنا نبحث عن بقية صديقات الدراسة، وأضفنا مجموعة جديدة في برنامج الواتس آب، واتّفقنا على أن نلتقي يوم الجمعة في منزلي، ولكن للأسف، التقينا في عزاء عفراء الّتي رحلت عن الدنيا وهي لم تتجاوز الأربعين من عمرها..

رحلت قبل زوجها الّذي تزوجته لترثه كما تمنّت أمّها.

وبعد انتهاء العزاء بشهر، ذهبنا لرؤية والدتها، للاطمئنان عليها، والسؤال عن حالها، ثم سألناها عن عبد اللطيف زوج عفراء، فنظرت أمّها إلينا نظرات مخذولة، وقالت:

  •  تخيلن.. عبداللّطيف أرسل لنا دعوى من المحكمة، يطالب فيها بنصيبه من إرث عفراء من والدها!

 

تعليق عبر الفيس بوك