بين الحافة والبليد


خالد بن سعد الشنفري

كان قدر آثار البليد أن لا تحظى منِّا بالاهتمام الذي ينبغي لقدرها وما كانت عليه تاريخيا، المدينة التي أدهشت ماركو بولو وكتب عنها الكثير، وابن بطوطة الذي زارها مرتين لولهه بها ووصف دقائق شؤون وحياة أهلها، إضافة إلى العديد غيرهم من كبار الرحالة في ذلك الزمان.
لا يُلام جيل عصر ما قبل النهضة للأسباب والظروف التي نعلمها جميعًا والتي يمكن اختزالها في الجهل والفقر. فلا زال منظر حصن البليد في الستينات من القرن المنصرم عالقًا بمخيلتي، فرغم تهدمه من مئات السنين، ظلت بعض جوانبه بعلو ارتفاع شاهق تصل لقرابة الثلاثة أدوار، مما يدل على أنه كان أكثر علوًا من ذلك، وأصبح اليوم وبعد 35 عامًا من التنقيب والترميم الأبسط من البسيط (إذا جاز لنا تسميته ترميمًا أصلًا)، وفي ظل نهضتنا المباركة وعصر النور والعلم والرخاء الاقتصادي، وبدلاً من ترميمه لإعادته للهيئة التي كان عليها، أصبح ارتفاع الحصن اليوم أقل من مستوى دور واحد فقط وعبارة عن كومة رمل منظره يسيئ لتاريخ وحضارة هذه البلد أكثر مما يفيده.
شاهدتُ قبل سنوات فيلمًا وثائقيًا عن ترميم مبنى في اليمن، وليس اليمن عنَّا ببعيد، كان توثيقاً لمبنى تراثي شُيِّد قبل عصر الإسلام، وأصبح متهالكًا، وبحالة أسوأ بكثير مما شاهدناه وسمعناه من الأهل والأجداد عن أطلال حصن البليد وجامع البليد الكبير ذي الـ 360 عمودًا.
رُمم المبنى اليمني بأيادٍ يمنية صرفة حتى تمَّت إعادته إلى ما كان عليه وبالتوثيق بالصوت والصورة وفي مدة زمنية قياسية.. تأملتُ بعد مشاهدتي لهذا الفيلم الوثائقي اليمني أن حصن البليد سيظهر لنا بنهاية الترميم بصورة أفضل مما نفذه الإخوه اليمنيون في مبناهم ليفصح عن ما كان عليه من عظمة وحياة أهل هذه المدينة عمومًا، وحدث ولا حرج عن الجامع وبقية مساجد وأطلال هذه المدينة التي كانت الأعظم في عصرها على مستوى مدن المنطقة كلها، وإن في القلب لغصة على هذا الأثر الذي أصبح أثرًا بعد عين وأمام أعيننا.
"حصن البليد الي تهدم // يبكي عليه من بناه"
لازلنا إلى اليوم للأسف الشديد نسير على نفس النمط، وإن ما يقلق أكثر هو ما لاحظناه من تسويف وتقاعس في مشروع تطوير المنطقة الثراثية للحافة منذ سنوات، فهل سنتعامل معها بنفس نسق ووتيرة تعاملنا مع البليد؟ وذلك بعد أن أخليناها من سكانها منذ سنين وننتظرها بمبانيها العتيقة الموغلة في القدم بمقياس إعمار هذا النوع من المباني المشيدة بالكامل بمواد من البيئة، وأيضاً مساجدها الستة التي تأسست مع تأسيسها لتلقى مصير البليد ونحن نتفرج عليها!
الحافة أو الحرجاء- كما كانت تسمى في زمن البليد- كانت السوق الرئيسي له، وثاني تجمع حضري انتقل إليه السكان في صلالة وعمروه بعد انهيار البليد.
الخوف كل الخوف أن نتعامل مع المنطقة التراثية بالحافة بنفس الوتيرة فمبانيها ليست بصلابة حصن البليد، فالحقوها قبل أن تصبح كالبليد أثرًا بعد!
صلالة منذ سنين وجوها الرباني وطبيعتها جلبت مصادر رزق للكثير من الناس وأيضاً دخلا للاقتصاد، وقد وثق آخر خريف قبل الجائحة استقبالها لـ600 ألف زائر من السلطنة ودول الخليج و160 ألفاً من السياح الأوربيين شتاءً.
آثار البليد وسمهرم- وهما ما هما عليه من أقل مستويات الترميم- كانا أيضاً مصدر دخل للدولة، فلماذا نغض الطرف عن دور السياحية التراثية؟!
جو خريف وشتاء صلالة وتراثها وآثارها هما فقط ما يجذب الزائرين إليها أما سوى ذلك فلا شيء لدينا يمكن عرضه من مرافق حديثة.
إنَّ من يزورنا يغض الطرف عن الحديث فلديه أفضل منه بكثير في بلده في سبيل الجو والطبيعة فقط وهما هبة الرب الأفضل لنا فيه والتاريخ وآثاره هبة موروث الأجداد لم لا نعتني بترميمه ليكون عامل أساس للسياحة.
السؤال للجميع دون استثناء: نحن ماذا قدمنا؟!
الحافة التراثية أمانة في أعناقكم أنتم أصحابها أولا وظفار كلها وعُمان عمومًا وأي جهة أوكل لها ذلك، فردوا الأمانة قبل فوات الأوان؛ إذ لن ترحمكم الأجيال.
---------------------------
*    موال قديم من الموروث.