ناصر أبو عون
لا أظنّ أنَّ أحدًا من المُمدّدة أجسادُهم على "شازلونجات" الشواطئ الزرقاء الافتراضية، أو المجاهدين فوق رقعة "الكيبورد" بـ"الكلاشنكوف" المُذَخَّرِ بالكلماتِ الآسنةِ، أو من المُتسامرين على طاولاتِ المَطاعمِ وبَارات المشاربِ العالميةِ لاستعراضِ عَضلاتِ الانتماءِ الكاذبِ إلى كوكبِ "الحداثةِ ومَا بَعدها"، ولا هؤلاء المتثائبين بجوارِ "قِططهم السِّياميّةِ" في أسرّة الرّفاهِ المُميتِ، ولا ثُلّة المستندة ظُهورُهم إلى المقاعد الوثيرةِ، وفي شفاهِهم "مباسِم الشيشة" المنكَّهة برائحةِ الفواكهِ الاستوائيةِ، ولا المحملقين من خلفِ الواجهاتِ الزجاجيةِ لـ"كافيهات" "شارعِ الحُب"، وهم يحتسون أكوابًا مختارةً من ستةٍ وثلاثين نوعًا من القهوةِ، وتتشنفُ آذانُهم بخشخشةِ الخرير المُستحلَب من الماكيناتِ والمختلطةِ بموسيقى "الجاز"، يعرف إنسانةً اسمها: عديلة مال الله؟!
عديلة مال الله.. ابنة التراث المُتجذِّر في طين هذه الأرض الطيبة، لم تمشِ يومًا معصوبة العينين خلف شيطان الكتابة المُؤدلجة، ولم تضع قدميها في بحيرة "الليبرالية الآسنة"، وليست من أنسباء العولمةِ المتوحشة، ولم تخطب يوماً ودّ صناديد وسدنة المشهد الثقافي العربي المهتريء والمتشظي، ولم تلهث وراء بقعةِ ضوء باهتةٍ في شاشات التلفزة، ولم تستعطف المشرفين على صفحات المجلات والملاحق الورقية الآفلة لتنثر بضع كلمات مُحاطةً بصورتها وممهورة باسمها، ولم تشاهد واقفة على ناصية المؤسسات الصحفية تتسول نشر إطلالة هنا، وتُدلي بحديث صحفي هناك.
عديلة مال الله.. كانت ترى القيادةَ رسالةً، والكلمةَ أمانةً، والقصيدةَ وحيًّا، والخاطرةَ فِكرًا، والصورةَ إنسانًا، والدينَ ضياءً، والإيمانَ إشعاعًا، والعطاءَ تفانيًا، والأخلاقَ طفلًا يكبرُ يومًا بعدَ يومٍ حتى يصيرَ قرينًا لصاحبهِ، ورفيقًا لمن يُؤمن بهِ، وسندًا لمَن لا أهلَ له.
عديلة مال الله.. كتابُ البراءةِ، وأناشيدُ الطفولةِ، وأغنياتُ الصِّغارِ في مواسمِ الحَصادِ، وترانيمُ "الكورس" تحتَ قِبابِ المعابدِ، وأجراسِ الكنائسِ، وصوتُ المآذنِ، وقائدُ أوركسترا يُديرُ حوارًا بين الآلاتِ على صفحةِ الكتابِ، فتعزف سيمفونيةً تستدعي "الملائكةَ" و"القُبَّراتِ" و"اللايالكَ" و"البلابلَ" مُنشدةً على شواطئ بحيرةِ المعنى.
عديلة مال الله.. لم تصعدْ أبراجَ المثقفين الآيلةِ للسقوطِ لترى العالمَ بأرنبة أنفِها، ولم تتخَفَ وراء أصبعِ سبّابتها؛ لترى عوامَ النَّاس والبسطاءَ والمطحونين والكادحين والكالحةَ وجوههم من أثرِ قُبلاتِ الشمسِ الحارقةِ بعينِ الكبرياءِ والاستكبارِ الكذوبِ.
عديلة مال الله.. لم ترتبط يومًا بعصاباتِ شوارعِ الأدب، ولم تتسكّع في حارات النقد الصحفي المعلّب والانطباعيّ ولا الكتبة المستأجرين رافعي شعار: "أَطْعِمِ الفَمَ يستحِ القَلمُ"، ولم تُمارسِ الكِتابةَ "المَافياويّةَ" لإرهابِ أصحابِ الآراءِ الجادةِ، والرصينةِ، ولم تنخرِط في تنظيمٍ ثقافيٍّ سِريٍّ يرى في الانتماءِ للمشهدِ الثقافيّ ولادةً للعائدِ من الموتِ موشومةً بِخَاتَم الانصياعِ إلى دستور "الشلّةِ" و"جماعاتِ الأقلامِ المأجورةِ" ولوائحِ "شُقق النَّقدِ العابرةِ للأسِرّةِ" في كلِ وقتٍ وحين، والمتحفزةِ لِتطلِقَ كِلابها المسعورة على الخارجين عن قوانينِها غيرِ المكتوبةِ والمختومةِ بِشعار حريّةِ التعبيرِ الماجنةِ غير المُقننةِ المفتوحةِ أبوابُها على مصراعيها لا يمسكُ لِجامَها قانونٌ، ولا يديرُ زِمامها عُرْفُ الأخلاقِ وشريعةُ القبيلة.
عديلة ما الله.. لم تنسحبْ من مواجهةِ العالم، ولم تدخلْ صومعةَ الانزواءِ، ولم ترفعِ الرايةَ البيضاءَ، ولم تسكنُ كهوفَ العتمةِ مُتعبدةً في مِحراب الحَرف، بلْ غَمست قلمَها في مَحبرةِ قلبِها، وخطّت بدمِها أجملَ الكلماتِ، ورسمتْ بريشتِها أروع اللوحاتِ، ثُمَّ أسلمتْ رُوحَها لِخالِقها ومضتْ مؤمنةً برسالتها.