طالب المقبالي
كتبتُ كثيرًا في موضوع التَّقاعد قبل طلبي للتقاعد، وما زلت أكتب بعد تجربة التَّقاعد، وسأستمر في الكتابة عن هذا الموضوع لما له من أهمية، وما فيه من تبعات مهمة ومؤثرة على الفرد والمجتمع والوطن.
البعض أقدم على التَّقاعد المُبكر من أجل الراحة والاستمتاع بالوقت والحرية من الارتباط بالعمل، في ذات الوقت هناك جهات حكومية وخاصة قامت بإحالة عدد من موظفيها للتقاعد المبكر لأهداف وغايات تصب في مصلحة تلك المؤسسات من أجل توفير شواغر للباحثين عن عمل، وكذلك توفير في الموازنات الخاصة بالموظفين، وهناك جانب آخر مهم وهو التقليل من تكدس الموظفين والعاملين في أماكن ليست بحاجة إلى أعداد كبيرة من الموظفين.
قد يكون التقاعد حلاً لكثير من الأمور التي سبق ذكرها، إلا أنَّ هناك مهن ووظائف لا يمكن أن يحال شاغلوها إلى التقاعد المُبكر، وحتى إنه ينبغي الاستثناء في قانون التقاعد بتمديد سن التقاعد لشاغلي بعض المهن والوظائف، وأذكر هنا بعضاً منها لمجرد الذكر وليس الحصر.
فعلى سبيل المثال الأطباء المتخصصون في التخصصات الطبية المُختلفة، كالأطباء المتخصصون في أمراض وجراحة القلب والشرايين، وأمراض العيون، وأمراض الأنف والأذن والحنجرة، وجراحة العظام، وجراحة المخ، وأي تخصصات طبية أخرى. ومن وجهة نظري فإنَّ عموم الأطباء سواء طبيب عام أو طبيب متخصص، يجب أن تمدد سنوات إحالتهم إلى التقاعد بما لا يقل عن سبعين عاماً أو أكثر، فقد رأينا وتعاملنا مع أطباء خارج السلطنة تفوق أعمارهم الثمانين عاماً وهم يُؤدون أعمالهم على أكمل وجه، خاصة أولئك الأطباء المتخصصين في الأمراض الحرجة، ويمكن تقاعد الطبيب العام لوجود مخرجات جديدة في هذا المجال.
كذلك من المهن والوظائف التي يجب أن لا يتقاعدوا مبكراً أساتذة الجامعات الكبار في كليات الطب والهندسة والكليات التخصصية الأخرى وذلك للاستفادة من خبراتهم في تعليم الأجيال، وكذلك المعلمون الأكفاء الذين يؤدون رسالتهم بكل اقتدار وإخلاص، وأيضاً الكوادر الإعلامية والصحفيون الكبار الذين افتقدتهم الساحة الإعلامية بعد قرارات التقاعد الأخيرة، وسنحتاج لسنوات كي نجد كوادر مثيلة لهم. وأيضًا المهندسون المعماريون ومهندسو الطرق والمهندسون الجيولوجيون والمهندسون الزراعيون، ومهندسو الطاقة وغيرهم ممن يؤثر فقدهم على ساحة العمل، والقائمة تطول.
ولن ننسى السياسيين الكبار الذين صالوا وجالوا في ميادين العمل السياسي وحققوا للبلاد مكاسب كبيرة بحنكتهم وخبراتهم الطويلة، وأيضاً بعض القادة العسكريين، وأيضاً الطيارون العاملون في المجالين العسكري والمدني، فهذه المهن يجب أن ينظر إليها نظرة خاصة في موضوع التقاعد، فلا تعامل كموظف أو مسؤول إداري همه في نهاية الأمر قبض راتبه نهاية الشهر، ويمكن تعويضه بأفضل منه بشاب قدير من مخرجات الجامعات، وقد يكون أفضل منهم ويؤدي عمله بإخلاص.
وهنا أودُ أن أوضح أنَّ هناك مهن مهمة لم أتطرق إليها لأنها لم تحضرني في هذه اللحظات التي أكتب فيها هذا المقال، ولكن على العموم هناك مهن ووظائف يجب أن تراعى في موضوع التقاعد، لأن فقدها مؤثر.
كما إنني أنوه إلى نقطة مُهمة وقد ذكرتها في مقال سابق قبل سنوات، أنه من الظلم أن تتم ترقية خبير وجراح كبير في القلب والأمراض المستعصية وغيرها، فننقله من مهنته الأساسية إلى وظيفة إدارية، وإن كانت كبيرة في المنصب، ونحرم المُجتمع من متخصص كبير كان بعمله ينقذ أرواحًا كثيرة، فترقية هؤلاء تتم بالدرجات والمادة، وليس بتغيير المكتب والكرسي، وقد ذكرت في ذلك المقال شخصية من الشخصيات التي تمَّت ترقيتها لوظيفة أعلى برتبة وكيل وزارة، لكنه وبمبادرة منه لم يترك عمله الأساسي في علاج المرضى؛ حيث خصص لهم يومين في الأسبوع وذلك بموافقة وتنسيق مع الجهات المسؤولة بالتأكيد.
وفي ختام المقال أود التطرق إلى تجربتي الشخصية، فقد تقدمت بطلب التقاعد ووظيفتي ليست بتلك الأهمية التي لا يُمكن أن يشغلها أحد، ولكن تقدمت بطلب التقاعد من أجل التفرغ إلى مهنة أحببتها منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي وهي الصحافة، والتي عاهدت نفسي أن أستمر فيها إلى أن يأخذ الله أمانته. فمهنة الصحافة مهنة لا تنتهي بالتقاعد، وإنما تتجدد بعده، فهناك أمثلة في كوادر إعلامية قد أحيلت إلى التقاعد وهي في أوج نشاطها، إلا أنَّها واصلت طريقها في هذا المجال من خلال عملها في وسائل أخرى خاصة، كي يستمروا في أداء رسالتهم النبيلة.