ناصر أبو عون
الاستشفاءُ بالكتابةِ، وكِتابةُ الوجعِ تُفتِّحُ الزَّهرات الذَّابلةَ في حدائقِ الإبداع، وسِنُّ القلمِ ليسَ غير سَهمِ من أغصان الحبِّ مشدودٍ إلى قوسِ الموسيقى يقتنصُ غَزالاتِ الخيالِ الشاردة، وأزرار "الكيبورد" ليستْ إلا آلة "بيانو" تعزفُ بلمساتِ الأصابعِ الحريريةِ "كونشرتو" الحياة.
الكتابةُ تارةً مِرآةٌ تعكسُ الواقعَ بكلِ تفاصيلهِ، وتارةً أخرى تُجَمّلُ الواقعَ ولا تَكذِبُ، وكثيرًا ما تكون الكتابةُ سوى سِباحةٍ في المستقبلِ، ورغبةٍ في الانتقالِ إلى عَالمٍ آخرَ، تكسرُ الحواجِزَ، وتتفلّتُ من الأكمنةِ والفِخاخ المُجتمعيةِ المنصوبةِ على ناصية الكُتُبِ، وتمزّقُ ألويةَ الكتبةِ الفَجرةِ، وتراوغُ الشياطين المتربصةَ في حوافِ الورق، أوحالةٍ طوباويةٍ للانعتاقِ من قَبضةِ محاكمِ التفتيشِ والمشانقِ المعلّقةِ على بوابات الأوصياءِ الكَذبة والمتحدثين باسمِ الرَّبّ زُورا وبهتانًا.
الكتابة نبؤةٌ، ونبوّةٌ، وأنتَ نبيٌّ؛ لكن لم يوحَ إليه، الكتابة شرفٌ سامٍ لا يرتدي بُرْدَته إلا كلُّ مصلحٍ هيّاب مُهَاب الجَنَاب؛ التواضع سيماه، والسماحة خلقُه، والفكرُ شيمتُه، إذا غابَ افتقدَ الناسُ أثرَه، وإذا انزوى في خَلوتهِ طرِبتِ الألسنةُ بذكرِه.
الكتابةُ ليست دائمًا جناتُ عدنٍ ورافةِ الظلالِ، الكتابةُ أحيانًا رؤيةٌ قابلةٌ للتشظّي، مرآة متشققةٌ لوجهٍ واحدٍ، ورغبةُ التَّجَسُدِ والحلولِ في صنوفِ المخلوقاتِ التي لا تُعدّ ولا تُحصى المرصوصةِ بين قطبين؛ يتربعُ على أحدِهما ملاكٌ صالحٌ، ويقعي على القطب الآخر شيطانٌ طالح.
الكتابةُ بحثٌ عن الذاتِ في ذواتٍ لا نهائيةٍ من الوجودِ، الكتابةُ شموخٌ للمنكسرِ، وعزةٌ للوضيعِ، وسيفٌ بتّارٌ في أيدِي المعتوهين وبائعي الوَهْمِ للانتقامِ منَ الشُّرفاءِ، والمُتاجرةِ بسمعةِ النُّبلاء، وعِمالةٌ وخيانةٌ للأوطانِ ورخصةٌ ممتدةُ الصلاحيةِ منزوعةُ الضميرِ في أيدي الخونةِ والمنافقين، وباعةِ الأوطان وتجّار الدين.
قد تأتيكَ حالاتُ الكتابة في صورٍ شتّى، ربّما في صورةِ امرأة تراودك عن نفسها، وتُوقعك في حَبائلها، وتلجِم لسَانك، وتضعُ سِرجَها على ظَهرك، لِتقودَك إلى مَخدعِ الشيطان، فتقعَ فريسةً للغوايةِ، حيثُ لا مفرَّ منكَ إلا إليك، وما عليك ساعتَها حينما تُفيق من سَكْرتكَ إلا أن تعاودَ الرجوعَ من حيثُ أتيتَ.
والعاقلُ عند خوضِ غِمارِ الكتابة يترك البابَ مُواربا، ويحدّدُ لنفسهِ نقطةَ رجوعٍ، ولا يحرِقُ في رِحلة إِبحارِه صوبَ مُحيطات الكتابةِ كلَّ السُّفن التي ركِبَها، ولا يُحطِّمَ كلَّ الجسورِ التي عبرَها، عسَاه أن يعود يومًا إلى صوابِه، ويقتفي أثرَ نزواته ماحيا عثراتهِ، ويتطهرَ من أدرانه.
وقد تأتيكَ الكتابةُ في صورةِ ملاك يرى العالَمَ بصورةِ الحالمِ، ويُطير في العلياءِ بِلا أجنحةٍ، ويسبحُ في قِيعان البحارِ، ويتنقلُ بين المجراتِ بلا رئةٍ؛ باحثًا عن الجمالِ في صورتهِ الأولى، وعُذريته الفطريةِ، فإياكَ إيّاكَ أنْ تنساق خلفَ هذا الملاكِ مطمئنًا لبراءتهِ معصوبَ العينين؛ فأنت ابن الأرض والفيافي والقلاع والمدن والضواحي والقرى والحارات المكتظة بالحكايا والخطايا، وخليفة الله في الأرض، وعِمارتُها غايتُك الأسمى.
الكتابة الشَّفافة العاقلةُ المسؤولةُ تجارةٌ رابحةٌ مع الله والناس، تتنصلُ من الأيديولوجيا، والكاتب الصادق لا يُؤدلج، ولا ينطق باسمِ جماعةٍ، ولا يروّجُ لحزبٍ سِياسيّ ولا ينتمي لتيّار دينيٍّ أو علمانيّ، ولا متحدّثٌ رسميٌّ باسم طائفةٍ أو عشيرةٍ، ولا شاعرٌ ينافحُ عن القبيلة، ولا متعصِّبٌ لمذهبٍ أو اتجاه فكريِّ ورأيٍّ إثنيّ، الكاتب الحقيقي بَوْصَلةُ المُواطنِ تِجَاه الوطنِ ومِصباحٌ للوطنِ، يضيءُ للسائرين في طريقِ الله.