خالد بن الصافي الحريبي
يُقال إنَّ "الألماس يبقى للأبد" بينما الأيام والعلاقات تتبدل وتتحول، ويُذكرني تبدّل الأيام، وتسلم الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي سدة الحكم في جارتنا إيران، بإحدى أعمق القصص العالمية عبرةً؛ إنِّها قصة "عرش الطاووس".
فطائر الطاووس حتى زمن قريب كان رمز بيت الحكم في فارس، وصور الطاووس الجميلة التي تُبهج النفوس عند زيارتك لأيِّ مجلس تراثي في مجتمعاتنا، ليس فقط لألوان ريشه الزاهية وخُيلائِه وكبريائه حين يمشي، وتصّدر صُورُه مجالس بيوتنا وقِلاعنا وحصوننا، بل أيضًا لارتباطها بتبدل الأيام. فقصص الطاووس تعتبر حتى وقت قريب من التراث الإنساني المشترك، بالذات للمجتمعات ذات الصلة بالحضارات الإسلامية في الهند وإيران والخليج العربي. ومنذ بداية النهاية لعصر الدولة الساسانية في إيران قبل حوالي 1400 عام، ويحكم إيران حاكم بالاسم بينما الحاكم الفعلي لإيران هم قادة قوات النُّخبة الخاصة المُتحالفين مع عُلماء الدين. لذا فإننا نُلاحظ أنَّ أحلام كل رئيس أو طاوس جديد عن العدالة، والدفاع عن المظلومين سيكون مصيرها كأحلام سابقيه التي تحولت لحملات ومُغامرات لبناء إمبراطورية تتطلب السيطرة على مقدرات شعوب أخرى لتمويل تكلفة الحملات والحروب. فما هي قصة عرش الطاووس والألماس وعلاقتها بأحلام الرئاسة الإيرانية الجديدة؟
عرش سليمان
يشغل الحُكم بالعدل الدول والحُكام على مر العصور، وفي صدر العصر الذهبي لأباطرة المغول العِظام المسلمين في الهند في القرن السابع عشر تساءل أحد أعظمهم "شاه جهان"؛ وهو نفسه باني ضريح تاج محل لزوجته، مع مجلسه بعد أن بلغت الإمبراطورية أوجها مع توسعها وكفاءتها العالية في تحصيل الضرائب من كافة أرجاء الإمبراطورية: كيف يوصل الحاكم للأمم والشعوب التي يحكمها أن العدل هو أساس الحُكم في دولته؟ وخلص مع جُلسائه إلى تبّني أقرب رمز ملكي للحُكم في التراث الإنساني والإسلامي المُشترك وهو عرش سيدنا النبي الملك سليمان عليه السلام بأنه هو الحل، وذلك؛ لأنَّ سيدنا سليمان حكم أمُمًا من الإنس والجن ولأنَّ عرش المغول الذي وحد كافة القارة الهندية هو الأثرى والأجدر بأن يتطلع للوصول لشرف أن يكون مضاهيًا لعرش سليمان آخذاً رمز الطاووس الذي منح العرش اسمه. وعليه؛ شرع الديوان الخاص في بناء أفخم عرشٍ في العصر الحديث من الرخام والذهب الخالص مُرصعًا بأثمن الماسات والمجوهرات، وتمَّ تدشين "عرش الطاووس" رمز أحلام الجمال والكبرياء والعدالة، وكان ذلك في عيد الفطر في العام 1635 ميلادية في الذكرى السابعة لجلوس شاه جهان على العرش. واستمر أباطرة المغول في الجلوس على عرش الطاووس لقرن من الزمان حتى حدث ما لم يكن في الحسبان. وعلى الرغم من ثراء عرش إمبراطوريتهم الواسعة إلا أنها ضعفت وانهارت بسبب الهجمات المتكررة من كل حدب وصوب داخليًا وخارجيًا بسبب الاختلاف بين أحلام الحُكام حول العدالة وتطبيقها على أرض الواقع.
أحلام نادر شاه وعرش الطاووس
منذ عهد الرسول عليه الصلاة والسلام والحاكم الفعلي لإيران هم قادة قوات النخبة الخاصة للحاكم، مع اختلاف أسمائهم مع مرور الزمان. فمن قوات "القزلباش" أو الرؤوس الحُمر الذين أسسوا الدولة الصفوية والأفشارية والقاجارية، إلى الكتيبة القوقازية في عهد الدولة البهلوية، إلى الحرس الثوري حاليًا. يذكر التاريخ نادر شاه الأفشاري كأحد أعظم شياه إيران ومؤسس سلالة الحُكم الأفشارية الفارسية التي حكمت إيران. فهذا الحاكم الذي بدأ حياته كراعٍ متواضع في مراعي قبيلته التركمانية، ثم كمنتسب لقوات القزلباش، معروفٌ اليوم كأحد أكثر القادة العسكريين عبقريةً في التاريخ، وما زال إدخاله للتقنيات المُتقدمة للعسكرية، وخططه في بناء مُعسكرات متكاملة ليدب اليأس في نفوس المدن المحاصرة، استراتيجية تُدرس في أكبر الكليات العسكرية حتى اليوم. ولكن في الحقيقة تركز حلم نادر شاه في تحقيق ما لم ينجح فيه أي حاكم مُسلم منذ عصر الخلفاء الراشدين، وهو أن يجعل كل المسلمين أمة واحدة مُتقاربة سياسيًا؛ بل وحتى مذهبيًا. ولتحقيق حُلُمه قضى نادر شاه حياته في حملات ومفاوضات مع جيرانه من الممالك المسلمة في الخليج العربي جنوبًا، والمغول والأفغان غربًا، والعثمانيين شرقًا، ومع ممالك آسيا الوسطى والروس والقوقاز شمالاً. ولتمويل حُلُمه غزا نادر شاه جيرانه المسلمين الأثرياء في إمبراطورية المغول في الهند عام 1739م، ودخل وجنوده دلهي ولم يتوقفوا عن نهبها إلا بعد قبولهم للخزينة الهندية و"عرش الطاووس" فديةً مُقابل إيقاف نهب الإمبراطورية المغولية. وسجل التاريخ أنَّ عظمة غنيمة نادر شاه من الهند أدت للمرة الأولي في التاريخ أن يُعفى فيها ناسه من الضرائب لمدة حوالي 4 سنوات. ولكن بعد حوالي 10 سنوات من الحكم انتهت أحلام نادر شاه بعد أن اعتلّت صحته وخانه قادة حرسه الخاص واغتالوه في جناحه. وقد تسبب غزو نادر شاه للهند في فتح شهية الاستعمار عن طريق شركة الهند الشرقية البريطانية.
أحلام "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس"
وفي القرن الـ19 تحولت بريطانيا من دولة تحلم بالترويج للتجارة الحُرة والتحضر إلى إمبراطورية استعمارية، تعتبر ثروات الشعوب المُستعمَرة من البريطانيين حلالًا لها إلى يومنا هذا. وأكبر مثال على ذلك احتلالها للهند. وفيما يعتبره الكثيرون من الهنود سرقةً لا تزال إحدى أثمن قطع الألماس في العالم- كوهي نور- إحدى أثمن القطع التي يملكها تاج العرش البريطاني اليوم، وتجذب من السياح سنويًا ما يعادل ميزانية السياحة في الكثير من الدول الناشئة.
الطاووس الجديد وتبدل الأيام
ما أشبه اليوم بالبارحة؛ فاليوم يتسلم رئيس جديد سدة الحكم في إيران ويحلم بالعدالة والاتفاق على كلمة سواء ويفخر بحضاراته، ولكن على أرض الواقع تتصارع القوى وتُراق الكثير من دماء البسطاء في اليمن والعراق وسوريا وفلسطين ولبنان. لذا من المتوقع أن تحذو النخب الحاكمة في إيران والرئيس الجديد إبراهيم رئيسي حذو سابقيها، وأن تسعى للتوسع عسكريًا وتحصيل الثروات لتمويل هذا التوسع على حساب جيرانها البسطاء. وقد أثبت التاريخ النتائج الكارثية لأحلام التوسع الإمبراطوري المبني على ظلم البسطاء، وكأننا لم نمشي في الأرض ونعتبر من قصص التوسع للإمبراطوريات المغولية والفارسية والعربية والأوروبيية. وأرى أننا اليوم في حاجة لأخذ العبرة من قصة "عرش الطاووس"، أن أحلام العدالة الفخمة لا تُقاس بالألماس والذهب والحملات العسكرية فقط بل باتخاذ العدل أساسًا للحُكم قولاً وعملاً. يقول تعالى في كتابه الحكيم "وتلك الأيام نداولها بين النَّاس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين" (آل عُمران: 140) صدق الله العظيم.