سالم بن نجيم البادي
يتحدث ضحّي اليوم عن الموظف "العود" الذي تسبق اسمه الألقاب الرنانة التي تُطرب لها آذان عامة الناس، وتجعلهم يغدقون على صاحبها الاحترام والتبجيل والتقدير والخوف والرهبة عند حضوره، فقد تذكرتُ موقفًا حدث لي عندما كنت يافعًا في بداية حياتي العملية، وكنا في انتظار ضيوف من المسؤولين الكبار، وقد سبقهم موظفًا أقل منهم مرتبة في السلم الوظيفي، واقترح عليَّ أن استقبل الضيوف عند الباب، قابلتُ هذا الاقتراح بابتسامة ساخرة واستغراب، لقد جاءوا في مهمة رسمية في وقت الدوام، وهذا من مهام عملهم والذي يتقاضون عليه راتبًا.
بالطبع لم أذهب لاستقبالهم عند الباب مما أثار دهشة واستغراب هذا الموظف، وذات سنة دعتني الحاجة إلى مقابلة أحد المسؤولين، وبعد انتظار طويل وبعد أن قطعت أميالًا طويلة حتى وصلت إلى مقره، وجدتُ مجموعة كبيرة من الناس وقد قدموا من كل مناطق السلطنة تقريبًا ينتظرون عند بابه، وعندما سمح لنا بمقابلته جمعنا في غرفة كبيرة جلس هو في وسطها وحدد لكل واحد منا وقتًا يسيرًا للاستماع لمطالبنا، وكان من بين الحضور كبار السن، والوقت لم يكن كافيًا للحديث، وكان يأخذ الطلبات على عجل، وأنهى المقابلات كلها في وقت يسير. ومن بين الحضور من يتحرج من الكلام أمام الجميع، وقد خرجنا جميعًا ولا نعلم ما هو مصير قضايانا التي جئنا من أجلها؛ لأن هذا المسؤول لم يحل أي قضية خلال تلك المقابلة، ورأيتُ خيبة الأمل بادية على كل من حضر تلك المقابلة. تلك التجربة جعلتني أتجنبُ السعي لمقابلة أي مسؤول كبير، ونفرتُ من سياسة الأبواب المغلقة، والمواعيد الطويلة التي يحتاجها من يُريد مقابلة المسؤول الكبير.
الحديث عن المسؤول "العود" يطول ويطول، ولا أعلمُ كيف ترسخت ثقافة تقديس المسؤول لدينا؟ ومن أين وفدت إلينا؟ ولا أدري من غرس في نفس الموظف الكبير أنه مهم جدًا جدًا، وأن عليه أن يظهر الفخامة وأن يتصنع الوقار، وأن يبالغ في المظهر الخارجي والأناقة والكبرياء؟ وكبار الموظفين إذا تواضعوا ونزلوا من أبراجهم العاجية إلى الميدان ترى منهم العجب في هيئاتهم ومشيتهم وسكناتهم وحركاتهم، الواحد منهم "رافع خشمه" ويظهرون في الصور- وهم حريصون طبعًا على التصوير- في كامل أناقتهم وزيهم الرسمي؛ حتى في بعض المواقف التي تستدعي منهم أن يشمروا عن سواعدهم وأن يرفعوا دشاديشهم إلى الركبة!
وإذا مشى هذا المسؤول الكبير يُسعده أن تجري خلفه أو بمحاذاته إن أردت التحدث إليه، ويكون معه وفد مرافق يمشون عن يمينه ويساره، يحمل بعضهم كُراسًا وقلمًا ليكتب الملاحظات والطلبات، لكن ثمار هذه الزيارة تكون زهيدة أو لا ثمار أصلًا على الإطلاق، وكل الوعود قد تذهب سدى!
أتذكرُ عندما يأتي المسؤول الكبير إلى المنطقة التي نعيش فيها؛ حيث تُراق دماء الذبايح التيوس والكباشة وربما الجمال الصغيرة، وترى الصياني الضخمة يزينها سنام الجمل الصغير، ورؤس الأغنام وهي تمتد بعيدًا مع أصناف الفواكة والحلوى والتمور، ومواعين مملؤة بالعسل والسمن البلدي مع الخبز بمختلف أنواعه. ولا اعتراض على إكرام الضيف ولا الكرم، لكن أن يأتي موظف في الحكومة ليقوم بمهام وظيفته ونستقبله بكل تلك الحفاوة، فإن هذا الأمر يحتاج إلى إعادة نظر، وأن تُسن قوانين تمنع الموظف أن يتناول حتى فنجان قهوة أثناء تأدية واجبه.
في إحدى الوزارات التي كثر الحديث حول موظفيها في الماضي، كنا نسمع عن الهدايا التي يعود بها الموظف بعد زياراته الميدانية أو تصل إليه لاحقًا، مثل سطول التمر الفاخر، وغراش العسل الجيد، وصناديق الفواكة، وربما ذبيحة!! ويقال له هذه قهوتك، وليس المقصود هنا مجرد القهوة المعروفة، وإنما مصطلح متعارف عليه ويعني "إكراميتك".
وإن نسيت فلا أنسى ذلك المسؤول "العود"، وبعد أن أكل ما ذكرتُ أعلاه من ذبائح وما معها من توابع، وقام إلى المهمة التي جاء من أجلها، وكانت تخص أبي، أبدى هذا المسؤول تبرمًا ووجه لأبي كلامًا جارحًا، وسخر منه وعيره بعمره، وحتى باسمه، ويشهد الله أن أبي لم يخطئ في حق هذا المسؤول، فقط طالب بما يعتقد أنه حقه، وإن عذرنا الأهالي في إكرام هولاء بدواعي الكرم الموروث، فلا عذر لبعض الموظفين في بعض المؤسسات حين يأتي المسؤول أو اللجان، فيقوم العاملون في هذه المؤسسة بتقديم الولائم العامرة للمسؤول أو اللجان، وليس الولائم والعزائم وحدها من تصنع من المسؤول فرعونًا؛ بل كل أنواع التزلف والمجاملة والشكر وإظهار الخضوع.
لماذا تشكر شخصًا قام فقط بواجبه مقابل أجر، وقد تشكره برغم تقصيره؟ وقد تصمت عن هذا التقصير فيكون هذا سببًا في المزيد من التقصير واللامبالاة؟!
يجب عليَّ أن أُشير إلى أنه ليس كل المسؤولين كما ذكرت آنفا، وأنهم مثل كل البشر؛ فيهم الصالح المتواضع الذي يراقب لله في كل ما يقوم به من عمل، كما إني لا أدعو إلى عدم احترام وتوقير المسؤولين، فقد أُمرنا بإنزال الناس منازلهم والاعتراف بالمكانة الاجتماعية التي هم فيها، وعدم التمرد على ما يأمرون به مادام كل ذلك وفق القانون، وما لم يتجاوز هذا المسؤول صلاحياته.
وأخيرًا.. أتمنى أن تكون ظاهرة تقديس المسؤول قد تلاشت أو على وشك التلاشي.
محبكم ضحّي..