خالد بن الصافي الحريبي
من طور هذه الشبكة الفاتنة للمعلومات (الإنترنت) التي نستخدمها يومياً؟ وما هي الجهة التي ابتكرت نظام تحديد المواقع والأماكن (جي. بي. إس)؟
قصة هذه الابتكارات النافعة للإنسانية تعود بنا للعام 1957 في قمة السباق والتنافس بين الاتحاد السوفييتي (روسيا حاليا) والولايات المتحدة الأمريكية ونجاح الاتحاد السوفييتي لإطلاق أول مركبة إلى الفضاء. وردًا على هذا النجاح أسست أمريكا هيئة مستقلة دفاعية أسمتها داربا أو "Defense Advanced Research Projects Agency (DARPA" وأصبح للعلماء والباحثين في هذه الهيئة مهمة واحدة فقط تطوير تقنيات متقدمة وناشئة بالتعاون مع القطاع الخاص لتعزيز الأمن القومي.
ومن تطوير مشروعين ومع مرور الزمن وتراكم الثروة المعرفية يطور الجيل الحالي من العلماء والباحثين في هذه الهيئة حوالي مئة مشروع متخصص في التقنيات المتقدمة. واليوم ونحن نتطلع معاً كبشر للعيش الكريم آمل أن نتوكل على المولى عزَّ وجلَّ ونتبنى خارطة طريق عملية لتحقيق هذه الغاية، وذلك بدءًا بالإجابة على ثلاثة أسئلة رئيسية: ما هي أفضل الممارسات في تنفيذ استراتيجياتنا بصورة سليمة وأمينة ومستدامة؟ وما هي رمية القمر؟ مخاطر عدم تبني تقنيات العلم النافع؟
صُنع القرار وأفضل ممارسات تنفيذ الرؤى
لا توجد قرارات نتخذها يومياً أهم من تلك التي تقربنا من تحقيق رسالتنا التي خلقنا الله عزَّ وجلَّ لأجلها. ولقرون، مع تطور الحياة ونشوء الدول كلما أراد الإنسان تنفيذ استراتيجية أُصدر قرار لتشكيل لجنة، واللجنة ينبثق عنها لجان فرعية وينبثق عن اللجان الفرعية فرق عمل ومع ضغط العمل يضيع دم رسالتنا بين اللجان والفرق.
وبينما نجح الاعتماد على اللجان لعقود إلا أن تقدم المجتمعات وأساليب التواصل وتطلعات الناس تُحتم اليوم التطوير الجذري في الغاية من هذه المُمارسة. وتُعتبر إحدى أفضل المُمارسات في هذه الجانب ما يُسمى بالاستراتيجيات الرئيسية والناشئة (Deliberate & Emerging Strategies)، التي طورها أحد أهم عُلماء جامعة هارفرد الأمريكية البروفيسور كليتون كريستنسن رحمه الله. وتوصي هذه الممارسة بأن يتم تطعيم الاستراتيجيات الرئيسية، ويُقصد بها البرامج التي تُترجم أولويات الرؤى الطويلة الأمد، كرؤية "عُمان 2040" وبرامجها على سبيل المثال، بإستراتيجيات ناشئة تمكننا من الابتكار في إدارة التطورات والتغيرات التي تواجهها مجتمعاتنا في هذه العالم الذي تُعتبر فيه التنافسية والتدافع سنةً من سُنن الحياة. وكما نشهد اليوم، لا تمر بضع سنين دون تطورات لم تكن بالحسبان كالأوبئة أو الأزمات الاقتصادية أو الثورات الصناعية أو الانتفاضات الاجتماعية، لذا ولكون الرؤى طويلة الأمد غير مرنة في التَّعامل مع التطورات المستجدة فإنَّ تبني استراتيجيات ناشئة يعيننا على الحفاظ على مسيرة التقدم والروح المُتقدمة عزيمة، وإصرارًا.
دار الحكمة السلطانية ورمية القمر Our Moonshot
لكل أمة رمية قمر، أو رسالة تعبر عن الأمانة والغاية النهائية التي تحملها، وحريٌ بخير أمة أن تحمل راية العلم النافع. وتسمى رمية القمر استلهاماً للرؤية التي تبناها بنجاح الرئيس الأمريكي الأسبق جون .إف كينيدي لإتمام مشروع إيصال الإنسان أو رواد الفضاء للقمر خلال 10 سنوات.
وأرى أنَّ اليوم الأسلوب الأمثل لحمل أمانتنا وتنفيذ رؤيتنا الطموحة يبدأ بتأسيس "دار الحكمة السلطانية". وهذه الدار تستلهم تاريخنا العريق في الشورى اتباعاً للنهج النبوي الشريف في الشورى، وإرث بيت الحكمة في العصر الذهبي للإسلام خلال الخلافة العباسية، ورؤية السلطان هيثم بن طارق في خطاب العرش في فبراير 2020 التي جاء فيها "إننا إذ نُدرك أهمية قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وقطاع ريادة الأعمال، لا سيما المشاريع التي تقوم على الابتكار والذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة، وتدريب الشباب وتمكينهم؛ للاستفادة من الفرص التي يتيحها هذا القطاعُ الحيوي؛ ليكون لبنةً أساسية في منظومة الاقتصاد الوطني، فإن حكومتنا سوف تعمل على متابعة التقدم في هذهِ الجوانب أولاً بأول".
وعليه أدعو كل مجتمع يتطلع لأن يؤدي أمانته ويأخذ كتابه بقوة أن يبدأ خارطة الطريق لتنفيذ استراتجياته بتأسيس "مجلس علماء" يشرف على دار الحكمة ويتشرف سنوياً بلقاء جلالة السلطان- رئيس الدولة مباشرة، على أن يتشرف بعضوية هذا المجلس ولي العهد، وعدد متساوٍ من ذوي الإنجازات الموثقة من الرواد والخبراء والخبيرات العمانيين وغير العمانيين على أن يجيد كل أعضاء المجلس اللغة العربية بطلاقة، والذين لا تزيد أعمار نصفهم عن 30 عاماً، ومهمتهم الإشراف على تطوير صناعات متقدمة في أهم 4 مجالات اليوم وهي: التقنية الحيوية لأهميتها في الحفاظ على نعمة صحتنا وعافيتنا، والذكاء الاصطناعي لأنه العمود الفقري للتصنيع اليوم، وأشباه الموصلات لأنها أساس البيانات التي نتداولها يومياً في هواتفنا وكل أجهزتنا الإلكترونية، والطاقة المتجددة لأن قيمة مصدر دخلنا الرئيسي نعمة النفط والغاز تتذبذب ويُغالبنا العالم عليها.
ومن المجدي أن يتبع علماء مجلس دار الحكمة جلالة السلطان مباشرة أسوة بخلفاء العصر العباسي في العصر الذهبي للإسلام، وأن لا يتبع أي وزارة سيادية أو غير سيادية لأن مهمته الابتكار بما يتكامل مع مساعيها لتحقيق الرؤية وليس التداخل مع إعادة الهيكلة المستمرة لهذه الوحدات.
المخاطر والشاه وخليج كوبا
كلما كبرت أمانة المسؤول كلما ندر تنوع آراء فريقه وحاشيته. وفي أيام الدراسة تعلمنا أن نقص المشورة من أهم المخاطر لأي قائد. ولا أدل على هذه المخاطر من قصة إحدى أفشل الغزوات في التاريخ، وهي غزو أمريكا لخليج كوبا في بداية عهد الرئيس الأمريكي كينيدي سنة 1961. وقد خلص الرئيس إلى أن سبب فشله هو أن فريقه كان لا يفيده بأي رأي واقعي إلا ما يعتقدون أنه سيسره، وكانت النتيجة كارثية. لذا فإن من شأن مشورة أصحاب العلم النافع في بيت حكمة عصري كدار الحكمة السلطانية أن تجنب أي مجتمع مثل هذه المخاطر لا قدر الله.
أسأل الله عز وجل أن يرزقنا جميعاً مشورة البطانة الصالحة؛ حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الأيام المباركة في السنة الثانية للهجرة: "أشيروا علي أيها الناس".