أثر تعلق القاعدة القانونية بالنظام العام والآداب

 

د. مصطفى راتب

أستاذ مُساعد بكلية البريمي الجامعية

 

من الملاحظ أنه لا يوجد تعريف تشريعي لفكرة النظام العام برغم ما لهذه الفكرة من أهمية كبرى في التفرقة بين القواعد الآمرة والقواعد المكملة، فهي فكرة تستعصي على التعريف الجامع المانع المحكم المحدد؛ ويرجع ذلك إلى أنَّ هذه الفكرة تُعد من الأفكار المعيارية المرنة غير المحددة، والتي تتغير وفقاً لظروف الزمان والمكان، وتختلف تبعاً لاختلاف المذاهب والنظريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في بلد من البلاد. كما أنها تتشكل حسب الغرض الذي من أجله يراد تحديدها.

فما يعتبر من قبيل النظام العام والآداب العامة في بلد ما قد لا يعتبر كذلك في بلد آخر. وفي ذات البلد ما قد يُعتبر من قبيل النظام العام في وقت من الأوقات قد لا يُعتبر كذلك في وقت آخر.

كما تختلف الفكرة باختلاف الأنظمة في البلدان المُختلفة، فتلك التي تدين بالمذهب الفردي ومبدأ الحرية التعاقدية، تنكمش فيها فكرة النظام العام فيسود مبدأ سلطان الإرادة وتقديس الاتفاق، ولا تظهر فكرة النظام العام إلا في حدود ضيقة تقرر القليل من القيود على مبدأ سلطان الإرادة، فتكثر بالتالي القواعد المكملة على حساب القواعد الآمرة. فالنظام العام كان يُعد قيداً خطيراً على حرية الأفراد، ولذلك كانت لا تعتبر القاعدة متعلقة بالنظام العام إلا بنص صريح في القانون.

أما في ظل النظم التي تدين بالمذهب الاجتماعي أو الاشتراكي، وترى وجوب تدخل الدولة لإقامة، مفهوم العدل الاجتماعي والتوزيعي. فتتسع فيها فكرة النظام العام وينكمش مبدأ سلطان الإرادة بالعديد من القيود التي ترد عليه، وتكثر بالتالي القواعد الآمرة على حساب القواعد المكملة.

ورغم مرونة فكرة النظام العام ونسبيتها، فقد حاول الفقه أن يضع تعريفاً لها، محاولاً تقريب هذه الفكرة من الأذهـان، قـائلاً عنها: إنها مجموع المصـالـح الجوهرية والأساسية للجماعة، أو هي مجموع الأسس التي يتأسس عليها نظام الجماعة وكيانها من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية ( والخلقية) بحيث لا يمكن تصور بقاء هذا الكيان سليماً دون استناده واستقراره على تلك الأسس. وبالتالي تُعد القواعد القانونية المتصلة بهذه المصالح الأساسية من قبيل القواعد الآمرة التي ينعدم إزائها سلطان إرادة الأفراد في الاتفاق على ما يخالفها.

ويتبين من هذا التعريف للنظام العام مدى ما يتمتع به من مرونة نسبية، وهذا أمر مفهوم؛ لأن المجتمع في المجتمع الواحد دائماً في تطور، وتتغير مبادئ وأسس تنظيمه بتطور وتغير المفاهيم والأفكار والمذاهب السياسيـة والاقتصـاديـة والاجتماعيـة. كما أن المجتمعات تتغاير فيما بينها باختلاف المذاهب السائدة فيها. ولذلك كانت فكرة النظام العام فكرة نسبية تختلف باختلاف الجماعات وباختلاف الأوقات والعصور في المجتمع الواحد.

وقد قلنا إنَّ ما يعتبر من قبيل النظام العام في بلد من البلدان قد لا يُعتبر كذلك في بلد آخر. ومثال ذلك أنَّ مسألة الجمع بين أكثر من زوجة وحق الزوج في إيقاع الطلاق بإرادته تُعد من الأمور المتعلقة بالنظام العام في سلطنة عُمان (والبلاد الإسلامية الأخرى)، بحيث لا يجوز الاتفاق على عكس تلك الأحكام أو النزول عن تلك الحقوق، فيبطل اتفاق الزوج مع زوجته في ألا يتزوج عليها، كما يبطل الاتفاق على حرمان الزوج المسلم من حقه في إيقاع الطلاق. وبالعكس ففي البلدان الغربية لا يجوز الجمع فيها بين أكثر من زوجة، كما لا يجوز إيقاع الطلاق بإرادة الزوج المنفردة يُعد ذلك أيضاً من النظام العام في هذه البلدان.

أما الآداب العامة، فهي مجموع المصالح الجوهرية التي تمس الأخلاق في الجماعة، فالآداب في أمة معينة وفي جيل معين، هي مجموعة من القواعد وجد النَّاس أنفسهم ملزمين باتباعها وفقاً لناموس يسود علاقاتهم الاجتماعية . تتصل الآداب إذن بأسس المجتمع الأخلاقية. ولذلك كانت القواعد المُتعلقة بهذه الأسس قواعد آمرة لا يجوز الخروج عليها. وعلى ذلك لا يقصد بالآداب العامة كافة قواعد الأخلاق، وإنما يقصد بالآداب الحدود الدنيا من قواعد الأخلاق اللازمة لحفظ كيان الجماعة وبقائها، بحيث لا يتصور سلامة هذا الكيان دون مراعاة هذا الحد الأدنى من القواعد الأخلاقية.

وفكرة الآداب العامة طالما أنها تتعلق بالأخلاق في بلدٍ معين وفي وقت معين، لذلك كانت فكرة نسبية مكانياً وزمانياً. فما يُعد من قبيل الآداب العامة في بلد مُعين قد لا يُعد كذلك في بلد آخر، وما يُعد من الآداب العامة في وقت مُعين ـ قد لا يُعد كذلك في وقت آخر في ذات البلد.

فمثلاً ذهبت غالبية النظم القانونية في أول الأمر، إلى مخالفة عقود التأمين على الحياة للآداب العامة، بدعوى أنَّ حياة الإنسان لا يجب أن تكون محلاً وموضوعاً للتعامل. كما أن وفاة الإنسان لا ينبغي أن تكون سبباً في اغتناء وإثراء غيره، الأمر الذي كان يمكن معه حدوث بعض الجرائم الناشئة عن استعجال المستفيد لوفاة المؤمن عليه صاحب وثيقة التأمين. غير أنَّ النظم القانونية المعاصرة قد اتجهت اليوم إلى شرعية عقود التأمين على الحياة، فتغيرت النظرة إليها نتيجة للتغير في مفهوم الآداب العامة.