قصة حلم معطل (5)

 حمد الناصري
 
    دقّ سعيد هاتف الغرفة من صالة الاستقبال للتأكّد، جميع موظفي الشقق الفندقية على علاقة صداقة مع ميلاد إبراهيم، قبل أن تكون وظيفية.. أحدهم عبر سماعة الهاتف ، قال: كان هُنا ومشى.. نعم، إنّه هنا، كان هنا بالفِعل.. يبدو أنّه في دورة المياه أو في.. في مكان آخر.. لاحظ سعيد توتر وقلق موظفي الاستقبال، كأنّما انتابهم توجّس من السؤال عن ميلاد إبراهيم.. فزادهم السؤال ضغطاً عصبيًا وغضبيًا في آن واحد.. وشعر سعيد كأنه ـ أشار إلى الطلوع من الغرفةـ أيّ أنّ بثلاثتهن خرجنَ برفقة استاذهنّ ميلاد إبراهيم، هكذا فهم سعيد عبر صوت الهاتف، أغلق الهاتف، ودلّف يبحث عنهم، كانوا قد جلسوا جميعهم على طاولة طعام صغيرة جداً، وأخذ سعيد مكانه على طاولة صغيرة أعدّت لهم وتبادلوا الأحاديث الودية بينهم، وبعض كلمات تفتّحت لها نفس الشاب سعيد، وراح في تفكير مُشتت.. جئت للعمل وليس لديّ من المال لتحمّل أعباء أخرى، لم آتِ من أجلها.. رحب ميلاد إبراهيم بالشاب القروي سعيد، فقال سعيد راداً التحية بمثلها، مرحباً صديقي ميلاد إبراهيم: أشكرك لأنّك تهتم بشأني، فأنا أبحث عن عمل وأطمح في المال لمساعدة أهلي في البلدة التاريخية. قال ميلاد إبراهيم.. ماذا تقول إذا وجدت فرصة في العمل الفندقي، والزميلات ثلاثتهن يعملن في الفندق الضخم ذي البستان الجميل والذي عُرف باسمه.. فكّر سَعيد لِبُرهة في الردّ وقال مازحاً: أخيراً أعمل في فندق.. صدّقني لا أُحبّذ مثل تلك الأعمال، في البلدة يعتبرونه عمل منحطّ، خالٍ من القيم، لا يصلح لأمثالي.. قالت سَحر: لماذا يا سعيد. العمل خير.. العمل رزق ومكسب، لم يُحرّم ربّنا العمل، ولم يُقيّدنا بشيء؛ طالما من ورائه مكسب.. وفي أمثالكم تقولون " اركب الهزيلة حتى تلحق بالسمينة " ضحك سعيد، صحيح لكن المثل لا يعني العمل بالفندق.. وكما يُقال في البلدة إنّ العمل في فندق.. فيه.. وسكت.. ثم أردف لا يُورث إلا خسارة.. قالت سَحر وكأنّها تناولته واستلمته أو كأنّ لسان حالها يُشير إلى ميلاد إبراهيم، اتركه عليّ ولا تخف. طيب يا سعيد، أليست التّجارة تبادُل للسّلع، والسلعة لا تكون إلا مُقابل مال.. ردّ سعيد: ولكنّنا لا نَقدر على مُبادلتها، فليس لدينا المال ولا حتى البديل للثمن.. كان سعيد يتحدّث بنيّة صادقة، لكن سَحر تعني ما تقول ولها هدف وغاية.. وحين تحقّقت غايتها واستسلم سعيد لمجادلتها وإقناعها له.. انفتحت أساريرها وراحت تصفّق.. وصفّقن معها زميلتيها، ومعهنّ ميلاد إبراهيم.. وبقي سعيد في صَمته.. لم يبزم بحرف... تملّكت الدهشة سعيد وخطف مشهداً دفعه ليرسم صورة الحظ.. وتمتم سراً.. ما بالك تتراجع وأنت لم تبلغ ذلك الحُلم.. إلى متى يبقى مُعطلاً؟ بالمال تجد الحال، ومتى ما تعدّل الحال وُجِد المال، هذه فرصة ثمينة.. إنهن لسْنَ من بنات جلدتك.. قالت خولة القصيرة كأنّها نخلة سامقة.. سعيد لا تنظر إلى الجانب المُظلم في الحياة، ليكن ذهنك نشيط في تحديد الإفادة من الفرصة لتكون اللحظة مُفعمة بالشعور الجميل.. رفع نظره إليها وكأنّه يتأمّلها.. فردّت: ليس كل عمل رذيلة.. فالرذيلة لا تقتصر على فهم معين.. حتى في العقل رذيلة إذا لم يقم بإقناع الشهوة على أنّها شعور نفسي؛ وإهدارها هو ذلك الجانب المُظلم، بل هو تعطيل لكل شيء.. العقل والذهن والتفكير، ثم ماذا.؟ تموت الطاقة وينحلّ النشاط وتذهب القوة ويبدأ الكسل والكساد يضغطان على النفس، ثم ما يلبث يتحوّل إلى جُرم في حقّ النفس لأنّه لم يُعطها بُغيتها أو ما اشتهت إليه، فالعُمر يا سعيد كالنار التي تشعلها بيدك لتستفيد منها، فإن لم تهتم بها؛ انطفأت فجأة.  
  
    قال سعيد بغير رضاً: هل الاستفادة أنْ نُتاجر بأجْسادنا لِمْنَفعة لا أخلاق فيها؟ ردت خولة الطويلة.. لو نظرت إلى الطبيعة لوجدت الكثير فيها الذي لا يناسبك ولا يتّفق عقلك معها.. فهل هي جزء من رذيلة لا خلاق لها؟ لا يا سعيد، الحياة عطاء وتبادل ومنافع.. دون ذلك لا تسير الحياة، هبْ أن قارباً يُريد أن يبحر به الصياد، لكن القارب يصطدم بيابسة.. ماذا على الصياد فعله؟ أن يخرج عائق ما ارتطم به القارب وسحب ما علق به، أنْ يطلب مساعدة غيره.. انظر ماذا أو ما هو المقصد من إبحار الصياد.. المكسب صح، مع الابتسامة.. هزّ سعيد رأسه إيجاباً.. ردّت خولة الطويلة، إذن، فأين الرذيلة التي لا أخلاق لها؟ كانت خولة مُكتنزة الجسم، وسطية الطول، بين كاترينا الطويلة وبين سحر الرشيقة فائقة الجمال، وتزيد عن سحر الرشيقة، بجسمها السمين...وهي تُلقي نظرة فيها غنج، ورقّة، تتقن فنّ ململة القعدة، تُغيرها تارة على اليمين وتارة أخرى على اليسار، ومن خواص السمينة، مظهرها يكسبها وزناً، تُحرك الأنظار إليها، كلّما تململت أو حرّكت شعرها، ينسدل على كتفها وصدرها البارز، شعرها ناعم به مُنحنيات يزيده إثاره، تتباهى بشعرها وجسدها كأنّها في جلسة حميمية.

     قالت كاترينا ذات المبسم الرقيق والقامة الطويلة وهي تستقبل إشارة من عين خولة، كأنما تقول لها، حان دورك، فاستلميه، وضعي بصمتك المؤثرة عليه.. التفتت إلى خولة وغمزت لها بطريقة ذكية وسريعة، غالباً ما اسمع بعض أحاديث الناس عندكم، أنهم يُسَمّون مُعتدلة القامة بـ مربوعة الجسم.. هزّ سعيد رأسه مُبتسماً، وأردف: نعم ذلك صحيح.. فردّت، ما أراهُ في الحياة، هو أنّ علينا الاستمتاع بكل شيء، الرجل برجولته وحركته.. وكوّرت يديها مع ضمّ الأصابع إلى باطن اليدين وراحتهما.. فنّ استمتاع الفتاة بأنوثتها، نحن الأُنثوات خُلقنا لنجد الراحة للرجولة ونستمتع بها معاً، ولكلّ مِنا سُلوك يستمتع به ومشاعر يمتاز بها عن غيره أو ما يُميزهُ عن أقرانه.. فمثلاً نحن بثلاثتنا، أشارت إلى زميلتيها سحر وخوله، نختلف عن بعض في أنوثتنا وفي مشاعرنا وفي طريقتنا وسُلوكنا وفي استمتاعنا.. ابتسمت.. المرأة يا صديقي سعيد، للرجل كمثل النبات، تظهر للرجل فيشتم ريحها فينجذب إليها، وذلك هو شُعور الرجولة؛ أما إذا وجدت الأنثى شُعوراً ينكسر أمامها، فتلك هي الذكورة، والفرق بينهما أي بين الذكورة والرجولة.. هو ما أوضحته لك في هذه العُجالة.. ولا بدّ من فهمها بالطريقة المناسبة.. فلن يتعلّم الإنسان من الحياة ما لم يُمارس فيها، فيُقال عنه صاحب خبرة أو يمتلك خبرة.. وحاولتْ كاترينا أنْ تكشف له أكثر وتتقرّب منه، يا صديقي سعيد، كاترينا هي الوحيدة التي تسمّي سعيد بـ صديقي، ابتسمت.. يبدو أنّها تميل إليه أكثر من غيرها، ابتسم وأغمض عينه، فأردفت كاترينا، إنّ الرجل والمرأة؛ لهما المَسْلك نفسه في الشهوة والرغبة، ولكلّ منهما إعدادات يختصّ بها جسده، ولكل منّا مشاعر تختلف عن الآخر، وتلك المشاعر هي استعدادات نفسية، رغبة وشهوة؛ ولكل منّا طاقة يبذلها وطاقة يستفيد منها، بمعنى أنّ المُعادلات ليست في أسس رياضية، كلاّ بل حتى في أجسادنا وفي نفسياتنا وفي مشاعرنا، مُعادلات حسّية.. فإنْ كنت ممّن لا تفهم المشاعر وأحاسيسها، وتستلم رسائلها، وتُخزّنها في نفسك، فإنك بلا شك سوف تقع في مُعادلتها الخطأ.. فالمشاعر ليست كالأحداث اليومية، المشاعر خذ وهات، تبادل.. أعطني؛ أنفعك، أشعر بك، تحسّ بي، قيمة المشاعر في المنافع المُتبادلة.. أمّا الأحداث اليومية فقد تمتنع عنها وقد تختلف معها، وقد يسوء حالك بها، وقد تظفر بغيرها.. لكن المشاعر انتصار للحياة.. رد سعيد بعفوية.. أثمن المكاسب للإنسان، تلك التي لا يلمسها بيده، بل التي يشعر بها كـ الطمأنينة والسعادة والرضا والثقة.. والمشاعر الحسّية لا تُشترى.؛.

   شعر ميلاد إبراهيم بأنّ سعيد شبق بـ كاترينا، والتمس احتمالية أن يكونا معاً، وأنها انتصرت على إحساسه واحتوتْ مشاعره، فأردف.. أنّ بين الأنثى والذكَر عطاء مُتبادل ومكسب متبادل في كل القِيَم المُتعارف عليها؛ كالتجارة تماماً، لن تبقَ على حال ولن تستمر بدون المال.! ولن تجد شعورٌ يتجانس مع طاقة الآخر، وأعني بها هنا طاقة التجاذب والشعور بالآخر.. فالروح لا تسعد إلّا بما في داخل غيرها؛ حين تتجانس طاقتهما معاً.. فيتدفّق كل شيء بسهولة. إنْ أعطى كل منهما مساحة من المُقدمات يشعر بها الآخر، ومن غير تعقيد، يُدرك الشخص الذي يتبادل الحديث معه أنه يحمل في داخله حاجة للتعبير عنها، حاجة ماسّة لا تقلّ أهمية عن حاجة الطرف الآخر به.. توقّف ميلاد إبراهيم وظلّ صامتاً ولم يبزم.
    سحب سعيد نفساً عميقاً، واسترق النظر إلى كاترينا طويلة القامة.. ورأتْ ذات الجديلة المُميزة والشعر الأملس الطويل.. أنّه لا بُدّ وأنْ تصل إلى قلب سَعيد وتُحرّك مشاعره نحوها..  وفي داخلها، حديثاً لم يطلع عليه أحد.. نحن في بُلدان قد مَسّها الجوع والعَوز وحاجة الناس أضْحَت كُلّها تجارة.. منافع وبَيع وشِراء ومكاسب، فإنْ لم نفعل شيئاً لحياتنا فسوف نموت ونحن أحياء من شدّة العَوز، ليس لدينا ما نملكه، أحياناً أحسّ كأنّ انفجاراً في داخلي، شيء يتمزّق حين أنظر لما حولي، ناس تموت، مشاهد حالِكة وموقف الموت صعب وقاس.
   واردفت كاترينا، وهي ترفع ناظريها إلى سعيد، التجارة مكسب وخسارْة، كما يُقال، فإنْ لم تجد ما تخسرهُ لن تجد ما تكسبه.؛ فلسفة شائنة لكن لا بدّ منها، في بلادنا الناس فكّروا فيما يكسبون، فالمكسب عطاء، والعطاء تسيير للحياة.. ولذا تجد كل الناس على عطاء وتيسير مكاسب، مقابل ما يخسروهُ، إذا اُعِدّ ذلك خسارة.. لكنّي وكثير من أمثالي الذين يُنشدون الحياة والرّفاه؛ لا بدّ أن يضحّوا ولو بأنفسهم، وأنْ يُقدّموا ما يلزم لينالوا المال والمكسب والعطاء.. ديمومة البقاء ليس كمثلها شيء، ولا تُقارن بشيء.. فإمّا أن تكون أو لا تكون.. كحال السفينة حين تصارع العاصفة. 
     استدارتْ، وتململت بجسدها وبانَ نصفي عجيزتها، وبرقت برقّة الأنثى الجاذبة العارفة بأساليب الغرام والشبق، وحرّكت جفنيها كأنّما تُسقيه من سرّ جاذبيّتها.. ملامحها هادئة، بلا تصنّع، يبدو أنّها هي التي شبقت بـ سعيد وأُغرمت به.. وظنّت أنّ سعيد شبق بها، وألزمت نفسها، بأنْ لا تخدش مشاعرهُ وتتصرّف وكأنّها صديقة مُقرّبة لا تترك جرحاً يخدش علاقتهما.. اقتربت منه، وهمست.. السرّ في الإعجاب، ومن كانَ معنا، له ما يُعجبه من كل شيء.. والأقدار جميلة وعلينا أن نرسمها بطريقة جاذبة.. قد يضيق صدرك وقد يُحيطك أمراً قاسياً، قد تكون المُواجهة فيه صعبة ومؤلمة، ولكن الأجمل ما نرسمه في مُخيّلتنا بمشاعر الأمل، فالأفق البعيد، زوايا أقدار لا نُدركها، نرسمها بمعيّة مشاعرنا.. فإنْ مات الأمل في دواخلنا، فقد قيّدنا نفوسنا بأحزان لا طاقة لنا بها، فتغريد الطيور في وقت المِحَن، تعني انها لا تستسلم للرياح الشديدة، فتراها تُرفرف وتُحلّق وتزقزق، كل ذلك من أسرار الأمل.

يتبع 6

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة