لغز الحياة (8)
أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي *
من الأماكن التي يصحُّ أن نُطلق عليها أنها أماكن مظلمة بحق: قيعان البحار والمحيطات؛ ذلك لأن جزيئات الماء والأملاح المختلفة الذائبة في مياه البحار والمحيطات تقوم بامتصاص بعض من أجزاء الضوء، وكلما انتقل الضوء إلى طبقة جديدة في عمق البحر امتصَّت جزيئات الماء والأملاح الموجودة جزءًا أكبر منه، فإذا وصل الضوء إلى ما يُقارب إلى 30 مترًا تحت سطح البحر، فإن جزيئات الماء والأملاح الذائبة فيه تقوم بامتصاص أحد الألوان الأساسية؛ وهو اللون الأحمر ولا تسمح بمروره.
هذا يعني أنَّ العين البشرية لن تستطيع أن ترى الأجسام الحمراء في تلك الأعماق، فإذا انتقلنا إلى طبقة أعمق، فإن مكونًا آخر من مكونات الضوء الأبيض يبدأ بالاختفاء وهو اللون البرتقالي، وبعدها سيختفي اللون الأخضر؛ أي أننا إذا وصلنا إلى ما يُقارب 50 مترًا تحت سطح البحر، فإن الأجسام والكائنات الحية والتي تتميز بألوانها الحمراء والبرتقالية والخضراء ستصبح نقاطًا مظلمة وستعجز حاسة الإبصار لدينا عن رؤيتها والتعرُّف عليها.. وهكذا، فكلما انتقلنا إلى عمق جديد انتقلنا إلى ظلمة جديدة حتى نصل إلى ظُلمة شديدة وعتمة لا مثيل لها؛ حيث لا ضوء يصل مطلقًا؛ ذلك لأن كل ألوان الطَّيف قد تم امتصاصها بالكامل ولم يصل منها شيء في تلك البقاع؛ فالضوء الساقط من الشمس يتم امتصاصه كله عبر جزيئات الماء المختلفة.
لقد وصلنا الى بقعة يصحُّ أن نطلق عليها بحق أنها مظلمة "إذا أخرج يده لم يكد يرها"؛ إذ لا يصل لها ضوء إطلاقًا.
في السبعينيات من القرن الماضي، تم اكتشاف فوهات حرارية مائية في تلك المناطق المظلمة في عمق المحيط الهادئ، وتبين أن هذه الفوهات المائية الحرارية، تكونت بسبب النشاط البركاني للأرض، وقد يصل ارتفاعها إلى عشرات المترات، كما أن درجة الحرارة في هذه الفوهات تصل إلى ما يقارب 400 درجة مئوية. ونظرا لأنها تنتج بسبب النشاط البركاني فإنَّ هذه الفوهات المائية غنية أيضا بالمعادن؛ كمعادن الحديد والكبريت والنحاس والزنك.
لكن ما كان لافتا للانتباه أنَّ هناك كائنات حية تعيش في ذلك الوسط المظلم، وهذا يعني أن هذه الكائنات لا تعتمد على ضوء الشمس أو التمثيل الضوئي لإنتاج الطاقة اللازمة لأنشطتها المختلفة، ولا بُد أن تعتمد على عمليات كيميائية صِرفة لإنتاج الطاقة اللازمة لها. وكثافة الكائنات الحية في تلك الفوهات كبيرة جدًّا، مما حدا بأحد المختصين في هذا الشأن للقول: "لا يمكنك رؤية الصخرة بسبب كمية البكتريا التي تعيش في تلك الفوهات البركانية".
يظنُّ عددٌ من المختصين في نشأة الحياة أنَّ الحياة نشأت هناك في تلك البقعة المظلمة؛ حيث إن فوران الماء الساخن مستمر، وحيث إن الفارق بين حامضية مياه البحر والمياه الساخنة المنبعثة والفوارة من تلك الفوهات كبير جدا، فماء البحر حامضي، بينما تلك المياه هي قاعدية التركيز.
وحامضية الماء عبارة عن مقياس لتركيز أيون الهيدرجين، فإذا كان تركيز أيون الهيدروجين عاليا يوصف الماء بأنه حامضي وأما إذا تركيز الهيدروجين منخفضا فإن الماء يوصف بأنه قاعدي، لذا فإنَّ المياه الموجودة في الأحجار الموجودة في تلك الفوهات تحتوي على مياه قاعدية، بينما المياه المحيطة بتلك الصخور حامضية، وهذا الفرق في تركيز أيون الهيدروجين يشبه فارق التركيز بين غشاء الخلية الداخلي والخارجي، والطاقة اللازمة للتفاعلات الكيميائية في الخلية إنما تنتج من خلال حركة هذه الأيونات بين الغشاء الداخلي والخارجي للخلية؛ لذا يظنُّ هؤلاء المختصون بأنَّ مركبات الحياة الأولية نشأت في مسامات وتجاويف هذه الصخور؛ حيث إنَّ الفارق بين تركيز أيون الهيدروجين في خارج وداخل هذه التجاويف يؤدي لحركة مستمرة لأيون الهيدروجين، ويؤدي ذلك إلى توليد الطاقة اللازمة لحدوث تفاعلات كيميائية تؤدي لتكوُّن المركبات المعقدة الأولية لنشأة الحياة.
... إنَّ المسامات الموجودة في الأحجار الموجودة في تلك الفوهات تحوي أيضا عددا من المعادن؛ كالحديد مثلا، وهذه المعادن تساعد على زيادة سرعة التفاعلات الكيميائية. كما أن هذه المسامات -نظرا لصغرها- كانت تشكل بيئة مناسبة لزيادة تركيز المواد الفاعلة؛ وذلك لأنَّ زيادة تركيز المواد الفاعلة يزيد من فرصة التقاء جزيئات هذه المواد ويزيد من فرص تصادمها؛ مما يسهل ويزيد من فرص حدوث تفاعل كيميائي ودون الحاجة إلى غشاء خارجي يجمعها في مكان واحد؛ وبالتالي فإن هذه النظرية تفترض أن المركبات الكيميائية المكونة للخلية تكونت في بداية الأمر ثم تكون غشاء الخلية.
إنَّ هذه الفرضية من الناحية النظرية تعد فرضية مقبولة، لكنها تحتاج دعما تجريبيا قويا يثبت صحة الفرضيات التي تتبناها، وربما البحث العلمي الذي لا يزال على قدم وساق في هذا المجال سيثبت أو يفند هذه الفرضية.
إذا أثبت البحث العلمي صحة هذه الفرضية، فذلك يعني أن الحياة تكونت في ظلمة الليل بعيدا عن أي ضوء وفي درجات حرارة عالية ونتجت من مكونات أولية بسيطة للغاية وهي ملح وتراب وماء.
---------------------------------
مصادر للتوسع في الموضوع:
1- Creation, How Science Is Reinventing Life Itself – Adam Rutherford
2- The Fifth Miracle, The Search for the Origin and Meaning of Life – Paul Davies
*****
"سلسلة علمية تحاول إلقاء الضوء على أهم وأصعب أسرار الطبيعة قاطبة، والتي ما زال العلم يسبر أغوارها، ويحاول جاهدا كشف مكنون أسرارها... فكيف نشأت الحياة؟".
* كلية العلوم - جامعة السلطان قابوس