جابر حسين العماني
في ليلة شديدة الظلام؛ حيث لا وجود للإضاءة في ذلك المكان، قرَّرت الذهاب إلى بيت من بيوت الله تعالى لأداء صلاة الفجر، وبينما أنا أسير في الطريق المظلم وحيداً لا وجود لأحد فيؤنسني، تعثرت بشيء غريب أصدر لي صوتا يشبه تجشؤ الإنسان، ومع شدة خوفي وذعري حاولت معرفة ذلك الشيء الغريب، وإذا بي أتفاجأ بأنه إنسان ممدد على الأرض بين أشجار النخيل والغاف، شعُرت بأن الأرض ستبلعني من شدة الخوف والرعب، ولكني تذكرت قول الله تعالى: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ".. فخيرت نفسي بين الرجوع إلى المنزل أو مواصلة المسير إلى المسجد.
وبينما أنا في حِيرة من أمري، وإذا بذلك الجسد الممدَّد جلس وهو يُصدِر أصواتا غريبة زادتني رهبة وخوفا ووجلا، كان لا يقوى على الوقوف، كلما أراد القيام سقط على الأرض، كانت رائحته كريهة لا تُطاق، ومنظره لا يليق بجمال الإنسان وإنسانيته، ما كان مني سوى التوجه مسرعا إلى أقرب نقطة لي وهي المسجد.
أخبرتُ أهل المسجد بما رأته عيني طالبا منهم متابعة الحدث، وبعد صلاة الفجر توجَّه الجميع لموقع الحدث، وإذا بالجميع يتفاجأون بأن الممدد على الأرض هو شاب من شباب ذلك المجتمع، ضحك عليه رفقاء السوء وأقنعوه بشرب الخمر والمسكرات المحرمة شرعا والمجرمة قانونا، وعندما أيقنوا فساده وانحرافه نهبُوا أمواله كلها، ثم رموه ذليلا وحيدا في ذلك الليل المظلم، وهو يعاني ما جناه من رفقاء السوء.
وهذا الحدث لا يمكن التعامل معه على أنه حدث مفرد لم يتكرر ولا يتكرر، لذا يدفعنا إلى السؤال: من المسؤول اليوم عن فشل تربية الأبناء وفساد الشباب؟ من المسؤول عن الرقابة الأسرية وإهمال التربية والتعليم في الأسرة والمجتمع؟ من المسؤول عن انتشار الفساد الذي بات يزرع في كل زوايا عدة من الحياة؟
أسئلة كثيرة لا بد أن يبحث عن إجابتها الآباء والأمهات والمربون داخل نطاق الأسرة والمجتمع، فمن الموارد الضرورية التي يحتاجها الإنسان اليوم توفير المدارس التربوية والنموذجية لصناعة الإنسان الصالح صناعة نموذجية؛ بحيث يكون قادرا على إبعاد نفسه عن الفساد والضلال والتضليل الفكري الفاسد الذي عادة ما يكون دخيلا على مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
وهنا.. أكتفي بذكر ثلاث مدارس تربوية مهمة لصناعة الإنسان صناعة ناجحة وآمنة تليق به وبإنسانيته أمام الجميع:
المدرسة الأولى: الأسرة الصالحة
الاسرة هي الكيان المقدَّس الذي ينبغي احترامه وإجلاله، وهي البيت العظيم الذي لابد أن تكون آثاره التربوية عظيمة على الأبناء؛ لذا يتوجَّب على الوالدين أن يكونا قدوة صالحة ملهمة لأبنائهما وبناتهما، ولا شك ولا ريب أن الأبوين هما من يفتح الأبناء عيونهم عليهما من أول لحظة يأتون فيها إلى الحياة، وينهلان منهما الكثير من السلوكيات، ويكون الأبناء أمام الوالدين كالكاميرا التي تلتقط وتسجل الأقوال والأفعال صوتا وصورة ثم يقوم الأبناء بتطبيق كل ما رأوه من آبائهم وأمهاتهم، فما فائدة الأب الذي ينصح أبناءه ليل نهار بالابتعاد عن التدخين وهو يدخن السجائر وغيرها من السموم الحارقة للرئتين؟ وما فائدة الأم التي تنصح بناتها بأهمية الحجاب وهي تضع المكياج على وجهها وتخرج به أمام الرجال في الأسواق ومواقع العمل؟
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه". وقال أحد الحكماء شعراً: "إِذا كانَ رَبُّ البَيتِ بِالدُفِّ مولِعاً // فَشيمَةُ أَهلِ البَيتِ كُلِهِمِ الرَقصُ".
المدرسة الثانية: دار العبادة
إن من أهم العوامل التربوية التي ينبغي الاعتماد عليها في تربية الأبناء وإبعادهم من خلالها عن الفساد والضلال والتضليل هو المسجد؛ ذلك المكان الذي أصبح بكل فخر واعتزاز صرحا تربويا ودينيا واجتماعيا وأخلاقيا في تربية الأبناء؛ بل هو مصدر الإشعاع الروحي والنفسي لجميع أفراد المجتمع؛ لذا ينبغي أن لا يُهجر وأن لا يختصر فيه على الصلاة فحسب، ويجب تفعيله بإلقاء الكثير من الدروس والمحاضرات التوعوية والأخلاقية التي من خلالها يستطيع الإنسان صناعة شخصيته الرسالية القادرة على الحفاظ على النفس من الضياع والفساد والإفساد .
المدرسة الثالثة: المدرسة النموذجية
كما أنَّ للأسرة والمسجد أدوارا كبيرة في تعزيز العنصر التربوي للأبناء، كذلك هي المدرسة، فهي تتحمل حملا تربويا كبيرا من أجل صناعة الإنسان؛ وذلك من خلال المعلم المتمكن، فلا يكفي للمعلم أن يكون ماهراً فيما يعلمه ويدرسه من مواد علمية مختلفة، وإنما يجب عليه أيضا أن يكون مطلعا بشكل جيد على علم النفس والاجتماع وقواعد التربية الأخلاقية ليستطيع بذلك أن يكون القدوة الحسنة بأخلاقه وسلوكه ومعاملته.
اليوم.. هناك على جدران مدارسنا الحكومية لافتات كبيرة كتب عليها بالخط العريض وزارة التربية والتعليم، والتي تعرف القارئ الكريم أن التربية في مدارسنا مقدمة على التعليم، وهذا أمر في غاية الأهمية لما تلعبه التربية من دور كبير في صناعة الانسان، ولكن السؤال الذي ينبغي أن يطرح اليوم للجميع: هل فعلا أصبحت مدارسنا تهتم بتقديم التربية على التعليم، كما كتب على تلك اللافتات الكبيرة؟ أم اكتفت مناهجنا الدراسية بتعليم العلوم المختلفة وأهملت التربية؟
... إنَّ التزامَ المجتمع بأهمية تقديم التربية الأخلاقية، وتطبيقها داخل نطاق الأسرة والمجتمع يتم من خلال الحفاظ على العادات الدينية والاجتماعية الأصيلة التي لها الدور الفاعل في توجيه سلوك أفراد المجتمع بهدف نقلهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم والفهم.
إِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ.. فَإِنْ هُمُو ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا