الهائمون

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

القادِمَة من المجهول امرأة ممشوقة القوام، ممتلئة، تميل للقصر، شديدة البياض.. لفَّت بطنها الكبير بيدها اليمنى، فيما أسندت راحة يدها اليسرى على إحدى صخور الوادي.. إنَّها حامل.

حدَّقت الأم بالقادمة من المجهول، والعرق يكسو جبهتها وشفتيها اليابستين، وأنفاسها المتسارعة وزفراتها اللاهثة. فتحت سيدة المجهول عينيها وأغلقتهما مِراراً، تريد أن تتأكد من هيئة الواقفة عند مدخل الكهف، افترت شفتها وتنهدت، إنها امرأة، هِبةٌ من السماء، فالتعب والإنهاك قد أخذا منها. أخذت الأم قربة الماء وخرجت من الكهف تُغيث الحُبلى، بينما الشريد المتحصن في مكانه حذرٌ يقظ، لا تنفك الريبةُ عنه قَيْد أَنْمُلة، طأطأ برأسه حين أدرك أن القادم امرأة حُبلى.

جلست على الأرض، ومدَّت ساقيها، لقد خارت قواها وأنهكها المشي في الشعاب، وبطنها يرتفع أمامها، يُثقل حركاتها، طرحت الأم أسئلة كثيرة على المرأة المجهولة، ولا ردَّ يأتيها منها غير نظراتٍ بلهاء وابتسامة سمجة. عقدتْ الأم حاجبيْها وضاقتْ عيناها، وسرحت بملامح المجهولة: أنفٌ نحيف أشم، ووجهٌ كقرصٍ مُضيء، وعيناها غابة خريف اِنْتَشَت بعد زخَّ المُزْن، سحرها كعالم الجنيات، تسمع عنه ولا تراه، فهل شقَّت صدر تلك العوالم وفرت من المجهول، إنَّها لسَاحِرة الصغيرة. طوقت أنامل الساحرة يدها بخفة فتنبهت الأم وسألتها: "كَيَت؟" (أي: ماذا بك؟)، لا جواب، لوَّحت المرأة بإشارات غريبة، وأصوات هَمْهَمة مبهمة، اتَّسعت حدقتا عينيْ الأم، افترت شفتيها بدهشة ثم زمتهما، الساحرة الصغيرة خرساء. تنهَّدت الأم وأخذت بيد الخرساء لتقفا معها، يبدو أنها على مشارف التاسع: ماذا تفعل امرأةٌ خرساءٌ، وحاملٌ، حاسرة الرأس في الوادي؟!

لم تشعُر السيدتان بالرجل الذي انقضَّ على ضفائر الخرساء من الخلف ولفَّها حول ساعده الأيمن وسحبها معه، ودفع بالأم من كتفها بقوة لتنكفئ على وجهها ويرتطم رأسها بالحصى، ارتفع صراخ ابنتيها من داخل الكهف بفزع وهلع، استنفرَ الشريد وقفز على وَجَل، واستدار حول الصخرة الضخمة التي تتوسط مدخل الكهف ليخرج من الجهة المقابلة.

شدَّ شابٌ نحيلٌ قبضته حول ضفائر الخرساء بقوة، وهو ينتفض بسخط وغضب، وصرخ قائلاً من بين أسنانه التي تصتك غيضاً: "ال ذَعَور ذَورَش شَحور" (أي: سأسفك دمكِ اليوم)، لا آهَّة ألم، ولا استجداء غَوْث، ولا أنين رجاء ليس لها إلا دمعهٌ نفرت من غابة عينيها الخريفية الماطرة. فزت الأم من سقطتها ودمها ينضح، لفت يديها حول ساق الشاب بشراسة مستميتة وأطبقت بفكها عليها، استصرخ الشاب وحاول رفسها بلا جدوى، غرست أسنانها أكثر في ساقه؛ فاشتد تألُّمه وزاد صراخه. حرر ضفائر الخرساء ودفع بها أرضاً، وقبض ضفائر الشرسة التي تطبق بفكها على ساقه، رفع كفه ليصفعها، وإذا ببرودة الفوهة الفولاذية للبندقية في مؤخرة رأسه، وصوت أبرد من صقيع الشتاء القارص يقول: "صَفعس، هَيِر جَسُرك" (أي: اصفعها إنْ استطعت). سقطت يده الممتدة وأطلق ضفائرها من براثن قبضته، وأنفاسه المتصارعة تحتدم.

أسندتْ الأم راحتيها على الأرض، وانطلقت كالسهم نحو الخرساء التي افترشت الأرض على جنبها الأيسر. كانت تلف كِلْتَا يديها حول بطنها وتعض شفتيها الدامية وأغمضت عينيها بألم، أجلستها الأم وتحسَّست بطنها المرتفع تتفحصه.

شَدَّ الشريد وثاق الشاب بالنحيف الذي كان فوق رأسه، والشاب يحلف ويتوعد بأنه سيقتل الخرساء لا مفر، جفل الرجلان بعد صرخة الأم وضربها على صدرها بقوة هتفت قائلةً:"اَتَيْث اتبرى" (أي: المرأة ستلد)، سائلٌ أبيض غطى ساقيها وأنفاسها ثقيلة، كانت تعض شفتيها بشدة والعرق يتصبب من جبهتها. ما إن سمع الشباب بأنَّ الخرساء على وشك الولادة حتى تدفق سيلٌ من الشتائم والسباب، صرخ الشاب غاضباً: "تكين إيتس، سه بشه" (أي: الموت لها ولطفلها).

دوَّى صدى صوت راحة كف الأم بقوة على وجه الشاب الغاضب، وخيَّم صمتٌ من هول ما حدث على الرجلين، انفجرتْ به المرأة بعد أن ضاقت ذرعاً قائلة إنْ كُنت تشتهي الموت فلنسعفك به عاجلاً. اعتمل الغضب والسخط بقلب الشاب فبصق بوجه الأم، رفس الشريد الشاب فوقع على جنبه ويداه خلف ظهره، انفرطت دموع الكبر والذل الحبيسة، وصاح بمرار قائلاً: "بَر حَروم، ذَهُنْ بَر حَروم" (أي: ابن حرام، إنه ابن حرام).