السلطان جمشيد.. عودة من المنفى!

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ" (آل عمران: 26).

تقلبات التاريخ لا تعترف بألقاب، ولا تقدر إلا القوي على الأرض، ومنذ بدء الخليقة لم يستمر حكم للأبد، هذه طبيعة الأيام وأحوال السياسة، فالحكم كالحياة لا ضابط له ولا رابط.. في بضعة ساعات وليس أيام قد يجد الحاكم نفسه خارج المنظومة، لا علاقة بحنكة أو خبرة لأن أحيانا الأقدار ترمي بثقلها بما لا يتصوره إنسان، وحوادث الدهر تغني وتكفي، وتوفي للباحث المهتم.

في شهر سبتمبر من العام الماضي -أي قبل شهور قليلة- وصل إلى العاصمة العمانية مسقط رجل غير عادي، لكنه بفعل اضطرابات الزمان أصبح أقل من العادي بواقعه الحالي كشخص، إنما أهميته المعنوية أن شخصيته لها أهمية تاريخية وسياسية صرفة، إنه آخر سلاطين الحكم العماني العربي في زنجبار السلطان جمشيد بن عبدالله بن خليفة آل سعيد.

بعد 56 عاما قضاها في المنفى وتحديدا في بريطانيا، بمدينة بورتسموث، غادر جمشيد بن عبد الله آل سعيد سلطان زنجبار السابق، آخر سلاطين زنجبار من آل بوسعيد، والبالغ من العمر 91 عاما، إلى سلطنة عمان، وكأن نفسه التواقة لبلده الأصيلة تنشد أبيات أبي مسلم البهلاني:

لها على القلب ميثاق يبوء به

إن باء بالحب في الأوطان إيمان

نزحت عنها بحكم لا أغالبه

لا يغلب القدر المحتوم إنسان (1)

فقد وصل الرجل الذي حكم زنجبار، وهي أرخبيل صغير في المحيط الهندي، حتى الإطاحة به بعد انقلاب دموي في يناير عام 1964، على حكم شرعي أتى بعيد الاستقلال في ديسمبر 1963 (2).

ذكَّرني هذا الخبر بقصة رواها أستاذي العزيز الدكتور بنيان التركي (3) خلال إحدى المحاضرات، بأنه وأثناء مهمة بحثية علمية، بحث عن مكان السلطان السابق في بريطانيا وعندما عثر على مكانه، جاءه في منزله الصغير بمدينة بورتسموث، ووجد زوجته ورحبت به. ويمتدح الدكتور بنيان الاستقبال والترحيب من قبل زوجة السلطان السابق، ولما طلب منها الالتقاء بالسلطان السابق اعتذرت بأدب، وأوضحت له باعتذار السلطان عن عدم مقابلة الباحثين أو الإدلاء بأي حديث أو الجواب عن أي سؤال، وعرضت على الدكتور الباحث أنه بإمكانها أن تدعو له من الوزراء الذين عاصروا السلطان إن أراد، وهو ما تم. وأكرمت وفادته ووفرت له بيتًا للاستراحة فيه. هنا يعتقد الدكتور بنيان أن سبب ذلك أن السلطان -فيما يبدو- كمقيم في بريطانيا وعطفا على مكانته السابقة، فثمَّة احتمال بأنه تعهَّد بعدم التحدث نهائيا عن أية أمور أو أنشطة سياسية، لذلك لم يستجب للداعي العلمي الذي أتى بالباحث الكويتي لذلك. لم أنسَ هذه الرواية وتذكرتها عندما قرأت خبر عودة السلطان السابق لبلده الأصلي ليقضي بقية حياته فيه.

والسلطان جمشيد ما زال حيا يُرزق يتمتع بالصحة، لكنه يعيش بعيدا عن الأضواء، وأتمنَّى أن يقوم باحث تاريخي مؤهل وموثوق، أو جهة رسمية عُمانية ولتكُن من قسم التاريخ بجامعة السلطان قابوس، الالتقاء بأحد أساتذته والطلب منه إعداد دراسة تاريخية عن السلطان، نظرًا لمكانته التاريخية الكبيرة؛ إذ عاصر أمورا مثيرة وكبيرة، وأن يتحدث بشهادات عن أحداث عاصرها وواجهها، لأن بالتأكيد هذا الرجل يملك ثروة معلوماتية زاخرة وذات أهمية تاريخية قصوى بما يتعلق بالذات فيما جرى إبان الانقلاب في يناير 1964م.

هذا المقال لا يسع المجال فيه لذكر أسباب السقوط في زنجبار، والموقف السياسي آنذاك لكل الأطراف ذات الصلة؛ حيث تعدَّدت الاجتهادات والتدوينات التاريخية، ولا شك أنَّ الواقعية والمصداقية لم تكن مكتملة الأركان كأي حدث مؤثر، فما بالك بهذا الحدث الذي لا يزال تدرس فحواه وأسبابه عند الكثير من المختصين بعلم السياسة والتاريخ وحتى العلوم الأخرى التي تستمد أحداثا جرت آنذاك، ومنها الأدب الروائي والشعر.

لذا؛ من الأهمية بمكان إعادة كتابة التاريخ وفحصه بعناية من قبل ثقات متخصصين لا يخشون في الله لومة لائم؛ لأنَّ التاريخ ليس مِلكا للحاضر فحسب؛ بل للأجيال القادمة، علما بأنَّ هناك مُؤرخين عمانيين توقعوا ما جرى قبل حدوثه بسنوات، ومنهم المؤرخ سعيد بن علي المغيري في كتابه: "جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار".

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- الشاعر العماني ناصر بن سالم الرواحي، الملقب بـ"أبي مسلم البهلاني": أُدرج ضمن الشخصيات المؤثرة عالمياً بمناسبة الذكرى المئوية الأولى على وفاته؛ حيث توفي عام 1920م، وتم ذلك خلال انعقاد أعمال الدورة 40 للمؤتمر العام لليونيسكو بمقر المنظمة بباريس بتاريخ 14 نوفمبر 2019م.

2- الموقع الإلكتروني لشبكة BBC البريطانية، بعنوان: "قضى 56 عاما في المنفى: آخر السلاطين العرب في إفريقيا"، نُشر في 27 سبتمبر 2020م.

3- أ. د بنيان سعود التركي، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة الكويت.