واحدة بواحدة

غسان الشهابي

في الأيام الماضية صُوبت سهام النقد من المنظمات الحقوقية العالمية لعدد من بلدان العالم؛ منها: الكبيرة والصغيرة، ومنها: الغنية والفقيرة، ومنها: المتقدمة والمتخلفة، وكعادة الكثير من دول العالم الثالث راحت تتعاطى مع هذا التقرير تعاطياً مزدوجاً؛ فأنكرت ما قيل عنها في هذا التقرير من انتهاكات لحقوق الإنسان وطالبت مصدري التقرير بتوخي الصدق والحقيقة فيما يكتبون، واتهم بعضهم هذه الجهات بأنها ممولة من جهات مناوئة لها مصالح في تشويه صورتها أمميًّا.

وعلى الضفة الأخرى، قامت هذه الدول نفسها -التي أنكرت منذ قليل مهنية وحرفية وصدقية التقارير السنوية ومعدّيها- بترويج ما قيل عن خصومها في نشرات الأخبار على اعتبار أنه صادر من جهات عالمية لا يُشكّ في نزاهتها واحترافها، فكل ما قالته في خصوم اليوم (أصدقاء الأمس) صحيح لا محالة.

هذه الدول درَّبت جلودها لتغدو سميكة تجاه هذه التقارير وأشباهها، كتقرير الشفافية، وتقرير الحريات، وتقرير مدركات الفساد، وتقارير الاختفاء القسري، والكثير غيرها من التقارير التي تسكب قطراناً على الصفحات التي تجتهد هذه الدول بتبييضها، وتشوه الصورة التي تُنفق في سبيل إبقائها ناصعة لبضعة أسابيع في السنة الملايين لشركات العلاقات العامة الدولية. فإذا ما كانت في الماضي تقيم حفلات زار كلما صدر تقرير من هذا النوع، لتكذيبه والتغطية عليه، صار التكذيب والنفي اليوم خبرين كلزوم ما يلزم.

والردود المضحكة التي ظلت تتردد في هذا المضمار من دول عربية وغير عربية عندما يأتي ذكرها بالسوء، هو قولهم: "تتحدثون عن الإرهاب؟ وهل هناك إرهاب أكبر من إرهاب الغرب؟ تتحدثون عن حقوق الإنسان؟ انظروا أولاً كم مشرد في الولايات المتحدة، وكيف يعامل ذوو الأصول الإفريقية في دولكم... وبعد ذلك تعالوا تحدثوا عنا". وهو أمر أشبه ما يكون بـ"خناقة" سيدات في الحواري الشعبية، حيث "تردح" كل واحدة للأخرى بقوائم من العيوب التي فيها وفي أسرتها وسيرها، فلتكف لسانها أولاً وتصلح شأنها قبل الحديث عن عيوب الآخرين ونواقصهم!

غير أن المسألة لم تقف عند الحدود الشرقية المتعارف عليها؛ ففي الأسبوع الماضي عندما أعرب الرئيس الأمريكي جو بايدن عن اعتقاده بأن بوتين "قاتل"، ردّ الأخير بأنَّ القاتل هو من يصف الآخر بذلك، وبذلك دخل البلدان في السباق "العالمثالثي" نفسه، وبالتكتيك الخائب ذاته الذي لا يعترف بالقصور، ولا يبرئ نفسه، بل يتخلص من الكرة التي وصلت بين يديه بأن يرجعها إلى خصمه مجدداً.

لقد باتَ واضحاً أنَّ غالبية دول العالم ما عادت تُلقي اعتباراً لما يقال في شأنها؛ لأنها تعود لتوزيع الاتهامات نفسها على الجهات الصادرة للتقارير، وقد تفيض هذه الاتهامات وتتعدى الجهات وصولاً إلى الحكومات، وهي بذلك تكون قد أدّت دورها في هذه المواسم السنوية التي تصدر فيها تقارير الخزي هذه، فما إن تفرغ من ردّ التهمة بشتيمة، أو الشتيمة بأقذع منها، حتى تلتفت عائدة لتتفرغ لممارسة ما قد نفته للتو، في عالم تراجعت فيه القيم بشكل مفزع، واستفردت القوى القُطرية أو الإقليمية بالسلطات الغاشمة، وويلٌ لمن يسألها أو يسائلها الحقوق.