بين "مناعة" و"مناعة"... القطيع واحد!

غسان الشهابي

مُنذ أن أطلق رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون في بدايات الجائحة تعبير "مناعة القطيع"، على اعتبار أنَّه السياسة التي سيتبعها في بريطانيا؛ وهذا التعبير قد اكتسب سُمعة سيئة جدًّا في الأوساط العالمية؛ لأن جونسون نفسه عاد للتخلي عنه بعد أن ارتفعت أعداد ضحايا هذه السياسة في بريطانيا، وعاد إلى الإغلاق والاحترازات، لريثما يجد العلم والعالم ترياقاً شافياً.

"مناعة القطيع" ليست من اختراع جونسون؛ لأنه مُصطلح موجود قبلاً، لكنه مهجور لأن العالم لم يمر بمثل هذه الجوائح الكبرى -حتى مع إنفلونزا الخنازير- منذ الثلث الأول من القرن العشرين. و"مناعة القطيع" لها مساران: إما أن يُصاب القسم الأكبر من المجتمع بالمرض فينجو من يستحق النجاة، وتتكون لديه أجسام مضادة؛ وبالتالي يكوِّن مناعة ضد هذا الوباء، فإذا كثر المتعافون فإن الوباء لن يجد له إلا قلة قليلة ممن يستطيع مهاجمتهم، وهم أولئك الذين لم يصابوا من قبل، وأولئك الذين ليس لديهم جهاز مناعة قوي، فيبقى القسم الأكبر من "القطيع" سليماً معافى.

أما المسار الآخر، وهو حصول النسبة الأكبر من المجتمع على اللقاحات المضادة للفيروس، للوصول إلى النتيجة نفسها؛ أي ألا يجد الفيروس منفذاً للفتك بأعداد كبيرة من البشر؛ لأنَّ الجانب الأكبر من المجتمع قد تحصّن ضدّه.

وعلى الرغم من تراجع جونسون عن سياسته ذات المسار الأول، خصوصاً بعد إصابته هو أيضاً بالفيروس في أبريل 2020، إلا أنَّ عدداً من رافضي فكرة أخذ أحد أنواع اللقاحات التي خرجت مؤخراً لا يتحدثون فقط عن فعالياتها، ولا عن مأمونيتها، ولا عدم خضوعها الكافي للتجارب السريرية، بل أيضاً عن إيمان عميق بالمسار الأول، وهو "إن لم تستطع العيش ومقاومة الفيروس فعليك المغادرة"، وهو تعبير ملطّف للموت؛ فالحياة تريد القادرين على المقاومة، وعلى الضعفاء مناعياً ألا يحزنوا لأنهم يخرجون من السباق.

هذا التوجُّه يُذكِّرني بإحدى النظريات القديمة التي درسناها تحت مسمى "الانتخاب الطبيعي" لتشارلز داروين، ومفادها، بشيء من الابتسار: "البقاء للأقوى".

التعامُل مع البشر على أنهم "قطيع"، أو مجرد "رؤوس" وأرقام لا تمايُزَ بينها، من الأمور المستغربة حقيقة؛ فقوة المناعة ليست وحدها ما يحدد الحق في العيش، وليست وحدها ما يحدد إنتاجية الأفراد، فمن بين ذوي المناعات الضعيفة مفكرون ومؤلفون ومخترعون ومبدعون وخبراء وعلماء بارزون في جميع المجالات، بل الأهم من هذا كله، والمقدّم عليه: لهم حقوقهم في الحياة، ولهم صلات من المحبة والأصحاب والذكريات، ويحملون أحلاماً، ويخططون للغد، ولا تزال مشاغلهم كثيرة، وعطاؤهم في أوجه، وقدراتهم غير محدودة ولا مقيّدة.

واضح أنَّ غالبية الحكومات في العالم، وأيًّا ما كانت قدراتها الاقتصادية، قد نحت المنحى الثاني من المناعة، ووجدت أن من الأفضل أن تحمي "قطيعها" باللقاحات، بالرغم من كل ما قيل عن نظريات المؤامرة بكل أشكالها؛ لأنها في هذا المنحى تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين بقيمة حياة كل فرد، وليس إلى أواسط القرن التاسع عشر حينما راجت نظرية "البقاء للأقوى".