قراءة في مواد النظام الأساسي للدولة

 

 

د. صالح بن هاشل المسكري *

* المتخصص في القانون الدستوري

صدر النظام الأساسي للدولة في نسخته الثالثة بالمرسوم السلطاني رقم 6/2021 بتاريخ 11 يناير 2021، وهو التاريخ الذي يُصادف الذكرى الأولى لتولي حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله- مقاليد الحكم في عُمان. وقبل هذا النظام، صدر النظام الأساسي الأول في العام 1996 بعد مرور ربع قرن على تولي المغفور له السلطان قابوس بن سعيد -رحمه الله- مقاليد الحكم، وصدور تعديلاته في العام 2011 تلبية للمطالب الشعبية التي أحدثت بعض التغييرات في الجهاز الإداري للدولة، والتي وصفها البعض بالتغييرات الإيجابية والجيدة؛ لأنها حرَّكت رواكدَ أصابت الوطن بالاختناق كادت تتسبَّب في مشاكل أكبر.

النظامُ الأساسيُّ للدولة الجديد ليس مُكمِّلا أو نسخة معدلة من النظام السابق، إنما هو نظام مستقل بتغيير واضح وصيغة تؤطر لعهد طموح، ورؤية وطنية أكثر بُعداً وشمولاً وانسجاماً مع تطلعات المواطن ورغباته وأمنياته، بدليل أنه أشار إلى هذا التغيير بعبارة -يلغى المرسومان السلطانيان رقما ١٠١/٩٦ و٩٩/٢٠١١، ولم يقُل يُلغى ما يخالف هذا التعديل، أي أننا أمام نظام أساسي للدولة يُواكب العهد الجديد في تنظيم العلاقة بين السلطات الدستورية، ويُؤكد الحقوق والواجبات والحريات لجميع أبناء المجتمع في عُمان.

وبنظرة على الموجِّهات الست لديباجة أو مُقدمة مرسوم إصدار النظام الأساسي للدولة رقم ٦/٢٠٢١، نلاحظ أنَّ هذه الموجهات قد توسعت عن سابقاتها التي جاءت في مراسيم إصدار النظامين ٩٦ و٢٠١١، وأوجزت منطلقات وأهداف العهد الجديد في عناصر محددة غير مكررة، وإن كنت أرى أنَّ هذه العناصر تحتاج إعادة ترتيب كي تأخذ بالأولويات؛ بحيث تكون عناصر صون الوطن والحفاظ على أرضه ووحدته ونسيجه الاجتماعي وحماية مقوماته الحضارية، وتعزيز الحقوق والواجبات والحريات العامة، ودعم مؤسسات الدولة وترسيخ مبادئ الشورى، برأيي هذه العناصر المهمة التي جاءت في نهاية الديباجة، يفترض أن تكون في مقدمتها، خاصة وأنَّ الديباجة أو مقدمة الدساتير تكون في العادة جزءًا من الدستور، ويُعتد بها كقانون مكمل في الخلافات القانونية في حال تمت صياغتها بكلمات وعبارات قانونية متماسكة كما هي الحال هنا.

النظام الأساسي الجديد توسَّع عن سابقه وزاد عليه بـ17 مادة دستورية، فيما يقول نابليون: "ينبغي على الدساتير أن تكون قصيرة ومبهمة". واشتمل النظام الأساسي للدولة على سبعة أبواب وستة عشر فصلاً تناوبت المواد والفصول في تفصيل كل باب. الباب الأول جاء التفصيل فيه على شكل مواد (12 مادة)، والثاني على هيئة فصول (خمسة فصول بمواد)، والثالث مواد، والرابع فصول، والخامس مواد، والسادس فصول، إلى أن نصل للفصل السابع الذي اشتمل على عشر مواد من الأحكام العامة. لكن في المقابل نجد دساتير دول أخرى تتسم بالتماسك في نسيجها القانوني والتسلسل الذي يُحافظ على السمو الشكلي للدستور؛ باعتباره نموذجا وطنيا يؤرخ لمرحلة مهمة من عمر الدولة.

وحافظ النظام الأساسي للدولة على مُسمَّاه (النظام)، في حين صدرت قوانين عادية دون مستوى النظام الأساسي أيضاً بمسمى نظام؛ منها: نظام المحافظات والشؤون البلدية. ولم يُوضِّح نظام المحافظات من هو المسؤول الأول: هل المحافظ في محافظته؟ أم الوالي في ولايته؟ فتارة تكون الغلبة للمحافظ وتارة للوالي الذي يخوله القانون القيام ببعض الاختصاصات والتواصل مباشرة مع الوزارة دون المرور على المحافظ. ثم هل بدمج البلديات بوزارة الداخلية اكتسبتْ البلديات الصفة السيادية؛ وبالتالي لا يمكن لمجلس الشورى مناقشة الأنشطة البلدية أم أنَّ وزارة الداخلية تخلت عن صفة السيادية، ويمكن دعوة المسؤولين فيها للمناقشة البرلمانية؟

وهنا.. كان على المشرِّع أن يختار بين أن يكتفي بإطلاق اسم النظام فقط على النظام الأساسي للدولة (كدستور لا يُزاحمه قانون آخر في التسمية)، أو أن يطلق على كل القوانين في البلاد اسم نظام، ويكون هناك النظام الأساسي للدولة، وأنظمة أخرى دونه بقوانين عادية.

لكننا نسأل أيضا: لماذا أبقى المُشرِّع على مسمى النظام بدلا من الدستور الذي تعرفه كل شعوب في العالم، إذا كان السبب هو في كلمة دستور غير العربية، وأنَّ خصوصيتنا العُمانية تلزمنا بتعريب كل ما هو غير عربي، لماذا إذن لا تُعرب أسماء أخرى ذات أهمية؛ منها: البنك المركزي على سبيل المثال؟ ولماذا لم تُعرّب المعاملات التجارية والاقتصادية وغيرها التي تمس حياة المواطن ويُوقع على أوراقها دون معرفة، ليتفاجأ بعدها بالتزامات وأعباء قانونية قد تُربك حياته، في حين أنَّ الجهل بالقانون لا يعفي من العقوبة؟!

النظام الأساسي الجديد برأيي سار على نفس نهج النظام الأساسي السابق، من حيث التوسُّع البنائي في الصياغة على حساب المعنى، وكان يُمكن للمشرع أن يجمع أكثر من مادة في سطر واحد، إضافة إلى إدخال موضوعات ليست من الدستور في شيء كتشكيل لجان، وفصول مستقلة لجهة الفتوى والتشريع (عِوَضاً عن ذكر السلطة التشريعية صراحة) والمحاماة، إضافة للإشارة في أكثر من موضع إلى الضرائب والرسوم، كل هذه الموضوعات كان بإمكان المشرع تجاوزها ووضعها في قانون مكمِّل للنظام، أو في لائحة تنظيمية دون مستوى القانون العادي يسهل تعديلها في أي وقت، أو تصدر بتوجيهات وأوامر سلطانية.

حتى المبادئ الموجِّهة لسياسة الدولة التي توزعت في خمسة فصول في الباب الثاني حصل فيها تفصيل وإسهاب وإطالة زادت على المائة سطر، كان بإمكان المشرع الخبير أن يلمها في سطور قليلة دون أن يهضم المعنى أو يخل بالمبنى، وثمة رأي يقول إنَّ المبادئ العامة أصلاً ليست من المواضيع الدستورية إنما هي من الأعمال السياسية التي تتعرض للتبديل والتعديل حسب مقتضى الحال.

مُلاحظتي الأخيرة التي تهمني وتعنيني كمتخصِّص في الرقابة على دستورية القوانين، هي أنَّ النظام الأساسي للدولة الجديد الذي كانت الآمال مُعلَّقة عليه في إحداث نقلة نوعية في التطور التشريعي، وفي الجانب الدستوري على وجه الخصوص، لكن استمرت الحال في عدم ذكر الرقابة الدستورية، وعدم الإشارة صراحة لأي محكمة تنظم هذا العمل المهم، الذي يضمن تنفيذ القاعدة الدستورية، ويحمي مبدأ الشرعية الدستورية، ويحفظ الحقوق الفردية والحريات المدنية والسياسية لكافة أفراد المجتمع. ومعروف أنَّه لا دستور بلا رقابة تقوم بتطبيقها محكمة دستورية عُليا؛ سواء كانت هذه المحكمة مستقلة أو كانت ضمن التنظيم القضائي للدولة.

استمرار عدم إشارة النظام الأساسي للدولة لقيام محكمة دستورية، وعدم إشارته صراحة لأي جهة قضائية تنهض بواجب الرقابة على دستورية القوانين، أثار تساؤلات المختصين، لاسيما في ظل الحديث عن دولة القانون والمؤسسات ككيان قائم فاعل يكون حُجة للجميع ويُشار إليه بالبنان.

... إنَّ قيام محكمة دستورية في عُمان لا شك من أهم ركائز دولة القانون والمؤسسات، ولا يُمكن لهذه الدولة أن تنهض بمسؤولياتها وتكون محل ثقة المواطنين والأجانب على أرض الوطن، وثقة المجتمع الدولي إذا كان الدستور عُرضة للتجاوز، ولا توجد جهة تعتنِي بحفظ مكانته وسموه وعدم تجاوزه، ونحن نعلم بأنَّ الهيئة القضائية التي أشير إليها في قانون السلطة القضائية منذ عشرين عاما، وأنيط بها الفصل في مدى تطابق القوانين واللوائح مع النظام الأساسي، لم تجتمع غير مرة واحدة، وفي مسألة تُعنى بتنازع الاختصاصات القضائية، ولم تجتمع في أي موضوع يخص الرقابة الدستورية.

وحيث إنَّ تعديل النظام الأساسي للدولة (كدستور) ليس بالأمر السهل، ويتطلب إجراءات خاصة لتعديله، فإنَّ الآمال تبقى مُعلقة فيما يخص تفعيل نظام الرقابة على دستورية القوانين بإصدار القانون المشار إليه في المادة (85) من النظام الأساسي للدولة، الذي يحدد الجهة التي تختص بالفصل في المنازعات المتعلقة بمدى تطابق القوانين والمراسيم السلطانية واللوائح مع النظام الأساسي للدولة، وعدم مُخالفتها لأحكامه، وعدم الاكتفاء باللجنة المشكلة أو بجهاز الرقابة الإدارية والمالية للدولة؛ لأنَّ اختصاصهما مختلف تماماً عن الرقابة على دستورية القوانين.

... إنَّ الرقابة الدستورية مبدأ قضائي مُتَّبع في أغلب دول العالم، وفكرة الرقابة على عمُوميتها قائمة بحد ذاتها في أدبيات النظام الأساسي؛ ولذلك المطالبة بها من خلال محكمة دستورية يدعم ويعزز قوة هذا النظام؛ فالمحكمة تكون بمثابة الحارس القوي الأمين الذي يضمن تطبيق نصوص النظام والحيلولة دون صدور ما يخالفه.