جابر حسين العماني
من أهم الصناعات الراقية التي لا تتحقَّق إلا بمواجهة الصعوبات الدقيقة والظروف الحياتية المختلفة هي صناعة الإنسان، والتي تكون بدايتها الأسرة والمدرسة والمجتمع، تلك المؤسسات التعليمية التي من خلالها يستطيع الإنسان بناء شخصيته الفكرية وتحديد أهدافه في الحياة.
الإنسان الفاشل في أسرته ومجتمعه لا يستطيع المساهمة في صناعة ورقي نفسه ومجتمعه ووطنه، بينما هناك أمم تقدمت بخطى ثابتة من خلال توظيف طاقات أبنائها الفكرية والجسدية والوطنية، فاستطاعت بكل فخر واقتدار صناعة مجتمعات ناجحة، أثبت الإنسان فيها كفاءته الفكرية والجسدية، فأصبح قادرا على بناء مجتمعا راقيا مُتفتقا بنور العلم والفهم، وتمثل ذلك في قدراته وإمكانياته الصناعية وحفظه لثروات بلاده المختلفة؛ وذلك من خلال اكتساب واستثمار العلوم النافعة وتطبيقها بالشكل السليم الذي يضمن للإنسان استقراره وراحته وإنسانيته في مجتمعه وطنه؛ فهناك الكثير من الدول المتقدمة التي استطاعت النهوض بقدراتها البشرية من بين رماد الحروب الضارية؛ فوقفت بكل جدارة وفخر واعتزاز شامخة لتُعلن للجميع نجاحها وازدهارها وتفوقها بين الأمم؛ وذلك بفضل إيمانها العميق بأهمية التعليم أولا وأخيرا فحقَّقت الكثير من الإنجازات والازدهار والتقدم العلمي، ومن هذه الدول المشهورة اليابان أين كانت وأين وصلت، وسنغافورة أين كانت وأين أصبحت، والكثير من الدول المتقدمة التي كان الجهل يُخيِّم عليها، ولكن بمجرد احترامها للعلم وسعيها ومُثابرتها للحصول عليه وتوظيفه بالشكل اللائق في خدمة الإنسان؛ وذلك من خلال احترام وتقدير طاقات أبنائها الفكرية والعلمية استطاعت فرض نفسها على الجميع، فأصبح الجميعُ يشير إليها بالبنان احتراما وتقديرا وتكريما لها ولطاقاتها البشرية، فهل أصبحنا نحن العرب كما أصبحت هذه الأمم في تقدمها اليوم؟ وهل وصلنا إلى ما وصلت إليه تلك؟
... إنَّ المتأمل في الحضارة العربية والإسلامية سابقا، يجد أن من أهم الموارد التي جعلتها قوية بين الأمم هو عنايتها واهتمامها ببناء الإنسان، وتكوينه العقلي والنفسي والجسدي والأخلاقي، فقدمت للإنسان كل ما يحتاج إليه ليكون قادرا على بناء نفسه ومجتمعه بناءً سليما.
لقد أسهمت الحضارة العربية والإسلامية بما تملكه من إمكانيات لدعم المسيرة العلمية للإنسان، فتخرج الكثير من العلماء والفلاسفة والمفكرين الأجلاء الذين كان لهم الدور الكبير في ازدهار الأمة العربية وحضارتها الإسلامية، فانتشر ذكرهم وصِيتهم وعلمهم في كل بقاع العالم أمثال جابر بن حيان، والفراهيدي، وابن رشد، وابن الهيثم، وابن سينا، والفارابي... وغيرهم من الفطاحل المخضرمين الأعلام، فهل أمتنا العربية اليوم أصبحت فعلا كما كانت عليه سابقا من تقدم وازدهار وتفوق علمي في صناعة الإنسان؟
ورَدَ عن سيد البلاغة وأمير الكلام الإمام علي بن أبي طالب مُخَاطِبا الإنسان :
دواؤكَ فيكَ وما تُبصرُ // وداؤكَ منكَ وما تشعرُ
أتزعم أنّك جرمٌ صغير // وفيكَ انطوى العالم الأكبرُ
وأنت الكتاب المُبين الذي // بأحرفه يَظهر المُضمَرُ
وما حاجةٌ لكَ مِن خارجٍ // وفِكْركَ فيكَ وما تصدرُ
إنَّ مَن يبحث جيدا في أحوال أمتنا العربية والإسلامية يراها اليوم تعاني الكثير من التخلف والانحطاط الأخلاقي، فهي ليست كما كانت، وذلك لكثرة السموم الغربية التي تأتيها من هنا وهناك، والتي أثرت على سمعتها ومكانتها بين الامم؛ فجعلت الكثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم تؤمن إيمانا مطلقا بالتقليد الأعمى لكثرة ما يأتيها من الغرب، تاركة أمجادها وحضارتها الجميلة التي كانت تفاخر بها بين الأمم! فصار الكثير من أبناء أمتنا العربية والإسلامية يظنون أنَّ الثقافة الفكرية والاجتماعية هي أنْ يكون الإنسان مائعا بفكره وسلوكه!! فأصبح وأمسى البعض في لباسه وشكله ساذجا يُقلد ما يراه في الغرب تحت شعار الموضة والحداثة التي سلطها الغرب على أمتنا العربية والإسلامية من حيث لا تشعر، فصار بعض شبابنا يتركون أزياءهم التقليدية والتراثية المحترمة، فأصبحوا يرتدون الثياب الممزقة، ركبهم ظاهرة، شعورهم كشعور النساء، أخلاقهم مبنية على الظلم والغش والاستبداد، فضلا عن بعض نسائهم وبناتهم التاركات للحجاب، أصبحن يرتدين الملابس الضيقة والقصيرة كاسيات عاريات يتسابقن لعرض صورهن وأجسادهن الفاتنة على شبكات التواصل الاجتماعي.
وورد عن النبي الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "سَيَكُونُ آخَرَ أُمَّتِي نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، عَلَى رؤوسهن كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ العجاف، الْعَنُوهُنَّ، فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَات".
فمن الواجب على الإنسان المسلم من أجل تحقيق بناء إنسانيته وشخصيته الإسلامية والعربية الأصيلة، التركيز على إصلاح نفسه وإصلاح من هم حوله أولا قبل كل شيء، قال تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا"؛ لذا على الوالدين في الأسرة، والمعلمين والأساتذة في المدارس والجامعات، والعلماء في المساجد وقاعات المحاضرات، السعي الجاد من أجل إصلاح النفس الإنسانية وتطويرها وتوجيهها الى التقدم والازدهار والرقي بالإنسان الى نحو حياة أفضل، على الانسان أن يكون إنسانا واعيا في أسرته ومجتمعه ووطنه وبعدها فليكن كما يشاء، فمهمة الرسل والأنبياء الذين بعثهم الله تعالى إلى الناس هي صناعة (الإنسان) أولا قبل كل شيء، لأهمية هذه الصناعة التي ترتكز دائما على أهمية القيم والمبادئ الإنسانية في الحياة؛ فلا يُمكن صناعة الإنسان الواعي دون وجود القيم الأخلاقية المؤثرة في الأسرة والمجتمع، والتي من خلالها يستطيع الإنسان التكيف مع التعاملات النفسية والفكرية والأخلاقية في الحياة.